مثلما انشطرت «العائلة» الديمقراطيّة العلمانيّة اليساريّة التقدميّة الحداثيّة الاشتراكيّة الشيوعيةـ حين جدّت المواجهة بين نظام بن علي ومن بعده نظام بن علي، من جهة والإسلاميين من جهة أخرى، انشطرت ذات العائلة مع إضافة الدستوريين والتجمعيين بمجرّد أن تلا الرئيس قيس سعيّد بيان 25 جويلية، وبدت بوادر الصراع مع حركة النهضة.
في الحالتين كان الانشطار بين من رام الالتحاق بأحد الطرفين مقابل من قرّر أو بالأحرى تخيّل قدرة الخروج بما يمكن تسميته «الخيار الثالث»، بمعنى الوقوف في وجه النظام القائم وفي الآن ذاته الإسلاميين.
وجب الإشارة إلى :
أوّلا : زمن بن علي ومن بعده بورقيبة، جاء الانشطار أبكر، وأكثر وضوحًا، خاصّة أشدّ حسمًا، بين قلّة قليلة لا تتعدّى بعض الأسماء «اليساريّة» الأقرب إلى «الفكر والثقافة»، نظّرت/ناضلت كتابة دون ممارسة بالمعنى الفعلي للكلمة، عندما أعلنت أنّه «التثليث» أي الوقوف «وقفة الندّ للندّ» أمام الطرفين المتنازعين دون تفضيل لأيّ منهما على الأخر، في حين قرّرت الغالبيّة الغالبة من هذه «العائلات الأيديولوجيّة»، الحاملة لخطاب سياسي أو بالأحرى الأيديولوجي، تبنّي الإقصاء في أكمل صوره، بمعنى التحاق معلن وصريح بالنظام وعلى وجه الخصوص الأجهزة الأمنيّة أين تولّت استنطاق الإسلاميين، مع ما لزم من تعذيب بشتّى درجاته، في مغالاة صدمت الجميع، بمن في ذلك عتاة الحزب الحاكم… مع أقليّة اعتبرها النظام كما بقيّة «الرفاق» فئة ضالّة، ساندت الإسلاميين من زاوية حقوقيّة بحتة…
ثانيا : خلّف بيان 25 جويلية الشهير الذي تمّ عبره الإعلان عن تجميد مجلس نوّاب الشعب، صدمة هزّت المجتمع السياسي بكامله. حركة النهضة التي خسرت مواقعها داخل السلطة، ارتدّت إلى «خندق الضحيّة» مع ما يستدعي ذلك أو هو يعود ذهنيّا/غرائزي إلى أشدّ الفترات قتامة في تاريخها.
مع فارق الشخوص الفاعلة ووسائل الاتّصال الاجتماعي، خاصّة تغيّر «معدن» السلطة من مركزيّة شديدة التركيز إلى حالة وسيطة بين تأمين «سيطرة ليّنة» والعيش مع «انفلات مضبوط»، تعيش البلاد السيناريو السياسي الذي عاشته زمن بورقيبة/بن علي، حين سيطر الرئيس قيس سعيّد بالكامل على دواليب السلطة وما تبع من تأسيس لبرلمان جديد واعتماد دستور نسخ سابقه.
ما يبدو أو ما يصدم، أنّ الخارطة السياسيّة عند أوّل صدام بين السلطة والإسلاميين، زمن بورقيبة كانت واضحة، وصارت أوضع زمن بن علي، في حين أنّها جاءت زمن قيس سعيّد، بُعيد حلّ البرلمان، شديدة التقلّب، ليس فقط بخصوص الموقف من أحد الخصمين، بل بخصوص «أفضل حلّ» للخروج من عنق الزجاجة، بما في ذلك بين صفوف حركة النهضة، التي وإن أبدت عبر العديد من قياداتها انفتاحا متزايدًا، ولم تعد تشترط «سقوط الانقلاب»، إلاّ أنّها لا تزال تخفي معظم أوراقها ترقّبا أو بالأحرى استعدادا لما لا بدّ منه من «مفاوضات» للخروج من الأزمة.
بين فترة بورقيبة/بن علي، والزمن الحاضر، فوارق عدّة تجعل من السذاجة الذهاب إلى مقارنة سطحيّة أو مباشرة بين العهدين. الفارق الأكبر، يكمن في أنّ حركة النهضة كانت تلقى عداوة أيديولوجيّة، من النظام ومن الطيف اليساري/العلماني/الحداثي، على اعتبارها (بالنسبة لهم) رجعيّة، أصوليّة، ظلاميّة، ومعادية للديمقراطيّة وللحداثة، وخاصّة تحمل «مشروعًا» معادٍ بل هو نقيض «المشروع الحداثي» الذي أرسى قواعده الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. انضاف راهنًا إلى هذا الرصيد، ما يراه جميع الخصوم أنّها «جرائم» العشريّة التي قضتها أو شاركت خلالها في الحكم.
عند النظر إلى المشهد من منظور تاريخي بحت، نجد تغيّرا كبيرًا في مفهوم «الوصول إلى السلطة»، حين كانت جميع الأحزاب المعادية لحزب النهضة زمن بورقيبة/بن علي (باستثناء الحزب الحاكم)، لا تفكّر في «الوصول إلى السلطة» بمعنى السيطرة أو حتّى المشاركة الفعليّة والفاعلة، في إدارة الشأن العام، فقط هي «أحلام فرديّة/شخصيّة» بنيل منصب أو أيّ شكل من الامتيازات الأخرى، في حين نرى (راهنًا) أنّ الوصول إلى السلطة أو (على الأقلّ) المشاركة فيها، صار «حلمًا» قابلا للتنفيذ (افتراضيا) حينت تداول على المناصب العليا في البلاد عديد المرّات، أسماء لم تكن تملك أيّ تجربة سياسيّة ولا هي ذات شعبيّة.
ذلك ما يفسّر تبنّي طيف غير هيّن من الطيف السياسي في تونس لخطاب 25 جويلية الشهير، ليقين في داخله، أنّ قيس سعيّد الذي أقدم على «قلب» المعادلة هو في أشدّ الحاجة إليهم، بل هناك من ذهب (أو بالأحرى ذهبت) إلى إعلان الأمر صراحة بأنّ ما أقدم عليه قيس سعيّد وما فعله تجاه النهضة يبقى منقوصًا، ولن يكتمل سوى حين يحتلّ أمثالها ومن هو على هواها الأيديولوجي مفاصل السلطة، بل أعلنت أنّ لا خيار أمام قيس سعيّد، إن أراد البقاء في السلطة، سواء هذا الخيار، أيّ الاستناد إلى التيّارات الأيديولوجيّة المعادية للنهضة.
وسط هذه المعمعة، وحين نقارن بين زمن بورقيبة/بن علي من جهة والزمن الحاضر، نجد أوّلا وأساسًا، أنّ قيس سعيد لم «يصنع» حزبًا، بل همّش القائم منها، سواء أشدّ مناصريه أو ألدّ خصومه، على اعتبار أنّه غير معني بإعادة لعبة «التجمّع الدستوري الديمقراطي». ثانيا، لم يقع اللجوء إلى «جحافل» خصوم النهضة، أو على الأقلّ ليس بالكثافة التي اعتمدها بن علي خاصّة. ثالثًا، يمكن الجزم أو وسائل التواصل الاجتماعي مكّنت أعدادا من «فرسان القلم» من لعب دور «المنافح» عن هذا المشروع أو ذاك. مع وجوب التأكيد أنّ القيادات التقليديّة لحركة النهضة أو على الأقل «أصحاب القلم» بين صفوفها الأولى، لم تنزل في خطابها إلى «المحظور» (أخلاقيا). دور أدّاه أو تمّ التنازل عنه إلى «طيف» من «المستقلين» يرتفع نسق الخطاب عندهم أو يتراجع بحساب «النشرة السياسيّة»…
في علاقة بالاصطفاف الأيديولوجي، يمكن الجزم أنّ «وفاة» تجربة «18 أكتوبر» وعدم قدرتها على تجاوز 14 جانفي، دليل قاطع، على أمرين : أنّ التجربة عجزت عن التحوّل إلى «فاعل» صاحب مشروع، اعتبرته جهات عديد وحده القادر على التأسيس لأرضيّة «العيش المشترك»، حين اليقين قائم بأنّ الاصطفاف الأيديولوجي يمثّل السرطان الذي ينخر الحياة السياسيّة في تونس. ثانيا أنّ «إخوة 18 أكتوبر» أو البعض منهم، مثال حمّه الهمّامي عاد إلى عادته القديمة، أي بناء الخطاب وتشييد القرار السياسي على أساس أيديولوجي صرف.
خلاصة : ليس مهمّا إن كان التاريخ يعيد ذاته، في شكل ملهاة أو المأساة، بل الجزم أنّ الغالبية الغالية من الطبقة السياسيّة، ليس فقط لم يطالع التاريخ ولم يقرأ بين سطوره، بل هو بصدد إعادة تجارب فاشلة وهو يمنّي النفس قبل الأخرين بالنصر الأكيد.