لا يمكن سوى في دول المسمّاة «عالمًا ثالثًا» كمثل البلدان العربيّة (الأخيرة على مستوى مؤشرات الشفافيّة وحقوق الانسانيّة والديمقراطيّة) أن يتشدّق الجميع (مع استثناءات قليلة) بالإنجازات الديمقراطيّة وما يلزم من حديث عن حقوق الانسان واحترام الحريّات، وفي الآن ذاته، كمثل الانتقال من قناة تلفزيونية محافظة إلى أخرى ماجنة، يتمّ الحديث أو التطبيل لصورة «المنقذ» القادر على «استخلاص» البلاد ممّا آلت إليه الأوضاع.
إمّا أن نكون ديمقراطيين، نؤمن بالقوانين والمؤسّسات وتساوي الحظوظ أمام الجميع، أو نبقى في القرون الوسطى نحلم بذلك «المنقذ» القادم على حصاص أبيض (أو دبّابة دهماء) لينزع السابق ويكون اللاحق، ليأتي في أحد الأيّام «منقذ» جديد، هو الآخر على حصاص ابيض (أو دبّابة دهماء)، ليعيد السيناريو ذاته، مع ما يلزم من متغيرات تمليها ظروف المرحلة وليس الحاجة في ذاتها…
شعوب تحلم أو تستبطن النقيضين، وتجمع بينهما في راحة عجيبة. شعب خرج إلى شارع الحبيب بورقيبة (أو على الأقلّ من خرج) رفضًا للدكتاتوريّة وقطعا مع ممارسات السيّد الواحد، والقائد الواحد، والأمر الواحد، وهلّل للديمقراطيّة والتعدّديّة وحريّة الرأي والإعلام، لتكتشف بعد أشهر أو سنوات أنّ هذه الديمقراطيّة ليست على ذوقه أو مقاسه، كمثل طفل صغير كسر لعبته واكتشف أو اعتبر أنّها لا تليق به، فيذهب باكيا إلى حين الحصول على لعبة (أي انقلاب جديد)…
وجب أن نميّز في جلاء بين دعاء «الديمقراطيّة» من ناحية في مقابل أنصار «الانقلاب»، هذا على مدى الكون بكامله، لكن أن يدافع المرء عن الديمقراطيّة ويرى أنّ الانقلاب حماية لها، أو هو الحلّ الوحيد للاحتفاظ بهذه الديمقراطيّة، فتلك (بمفهوم علم النفس السريري) حالة انفصام خطيرة، تستوجب المعالجة في مصحات عقليّة، قبل اعتبارها أو التعامل معها في صورة الموقف السياسي أو الرأي الفكري…
نلاحظ جميعنا أنّ «الديمقراطيّة» (وجميع معجمها)، لم تعد في هذا الفضاء العربي، سوى جملة من «الأدوات الكلاميّة» أو هي «المعدّات» التي يتمّ التصرّف فيها عند الحاجة، وليس من باب المبدأ.
ديمقراطيون (أو من يدّعونها) من تونس يعاركون ديمقراطيين (أو من يدّعونها) من تونس كذلك، علمًا أنّه يقف وراء كلّ «طرف ديمقراطي» (محلّي) مموّل وممرّن وداعم خليجي، لا علاقة له بالديمقراطيّة البتّة، بل لا يمارسها ولا يسمح بممارستها ويعاقب من يدعو لممارستها (في بلاده)، بل يسمح لملحقاته الدينيّة أن تكفّر الديمقراطيّة فكرا وعقيدة وممارسة.
المصيبة ليست في المشهد ذاته، بل في النشار المرضي الذي نراه، حين يهاجم هذا «الطرف الديمقراطي» (التونسي) الراعي الخليجي للطرف الأخر التونسي، ويروح فيه سبّا وشتما بأقذع النعوت… شتم وسبّ يليق حدّ التطابق التامّ مع راعيه الخليجي حدّ التطابق…
الديمقراطيّة عقليّة، وليست صناديق اقتراع، تخرج من مخازنها مرّة كلّ أربع سنوات، وليست قوانين مسقطة من فوق يتمّ التعامل معها في صورة السيف المسلط على الرقاب (عند الحاجة) والاستهزاء بها (عند الرفض)…
كما لا يمكن أن نتخيّل علاقة حبّ، لا يجمع بين الطرفين سوى العنف اللفظي والمادي، كذلك لا يمكن أن نرى في ما يجري في تونس ديمقراطيّة في أبسط أشكالها، لذلك صار العقل الجمعي أكثر «حنينًا» لصورة «الجنرال» القادم على دبّابة لإنقاذ البلاد…
فكرة «البطل المنقذ» تشترط الاعتراف (الصريح والمعلن) بالقصور الذاتي والعجز المرضي وعدم القدرة على تحمّل المسؤوليّة، أي بصريح العبارة أن الفرد «لم يبلغ من النضج» ما يدّعيه السياسيون، ومن ثمّة يتّم الرجوع إلى عقد التبعيّة والمناشدة والمبايعة.
خلافًا لما يعتقد الجميع (جميع من يدّعون الديمقراطيّة) لم يسقط زين العابدين بن علي أو فقد السلطة، لمجرّد أنّه «طاغية»، بل سقط فقط لأنّه لم يدرك حدود الطغيان المقبولة من قبل العمق الشعبي، سواء على المستوى الاقتصادي ومن ثمّة الاجتماعي أو على مستوى «العنف المجاني» الذي كانت وسائل القمع (بمختلف أشكالها) تمارسه، من باب تلبية رغبة سيكولوجية (في دواخل الأفراد) لظلم الآخرين وقهرهم، ومن باب التخيّل، أن «فائض القمع» (أو القمع الاستباقي) كفيل وحده بردع الأفراد وجعلهم لا يفكرون في تجاوز الحدود المرسومة، وكذلك (وهذا المهمّ) يعتقدون أنّ بفعل «الردع الاستباقي» يلبون أوامر ورغبة «صانع التغيير» أوّلا، وأيضا شهواتهم هم، «صنّاع صانع التغيير»، حتّى وإن جاءت هذه الشهوة مجرّد «خميّس» أو «عاشور» تحت شعار «أفرح بيَّ»….
يسخر الحالمون المنقطعين عن المجتمع في برج عاجي، من امكانيّة عودة «الزعيم الأوحد» وكذلك «البطل المنقذ»، لأنّهم (وهذه عقدة ما يسمّى «النخبة» في تونس) تعتقدون أنّ الشعب وكّلهم للتفكير عوضًا عنهم، أو أنّ الشعب (عن طواعيّة) سيتصرّف وفق ما يقرّرونه هؤلاء الحالمون في أبراجهم العاجيّة.
نظرة إلى الحزبين الأكبر في تونس (أو ما يروّجه الاعلام على هذا الشكل) نلاحظ حالة غريبة ووضعًا عجيبًا: في الآن ذاته، قول بالديمقراطيّة واصرار على المؤسّسات وتأكيد على أن القرار لا ينبع من «شخص» (بمفرده)، وفي الآن ذاته اصرار على «عظمة الشيخ» وقدرته بل فرادته أو حتّى أنّه المنقذ.
ألم نسمع من قيادات في النهضة كما في النداء هذا القول (على المنابر الاعلاميّة): «لولا التوافق بين الشيخين راشد والباجي لكانت تونس في حال شديد السوء»… يقولون الأمر من باب الافتخار بل التباهي بهذا «المنقذ» (كل حسب شيخه)…
التأسيس (داخل النداء وخصوصًا داخل النهضة) لفكرة «الشيخ/المنقذ» أي فرادة الفرد واستثنائه عن المجموعة، هو استمرار على نهج بورقيبة حين جاء بالحداثة وختمها بالرئاسة مدى الحياة، جاء بالتعليم والتنوير وأسّس لعقوبة التفكير خارج الإطار الرسمي، جاء بحريّة المعتقد ووجوب الخروج من تحت جبّة «الإمام» (بالمفهوم الديني)، فأسّس لإمامة لذاته، وجعل الناس يسمعون يوميا خطبته («توجيهات الرئيس» على القناة الرسميّة) في حين أنّ خطبة إمام المسجد تأتي مرّة في الأسبوع…
بورقيبة جعل الديمقراطيّة قشرة ومحتواها عبادة شخصه، وكذلك فعل بن علي بطريقة أغبى، وكذلك فعل الباجي بطريقة أزهى (على مستوى الخطاب)، وكذلك يفعل الغنوشي بطريقة أذكى من أربعتهم..
يمكن الجزم أنّ «بن علي» لم يكن مشروع شخص (مهما كان هذا الشخص) بل حاجة من العمق الشعبي ذاته. العمق الشعبي ذاته الذي يشتكي من سوء الوضع راهنًا ومعلّلا الأمر بغياب «القائد القادر على مسك الأمور» حين يأتي «العسكري» الأقدر بحكم حمل السلاح، حين يرمز السلاح (لدى الشعوب المقهورة) إلى «الفحولة» المهدورة لدى عمق شعبي بفعل صفعة الأب أو الأمّ في المنزل، وصفعة المعلّم في المدرسة وعصا الشرطي في الجامعة وظلم المدير في العمل…
مادام العنف ميراث هذه الأمّة والإذلال وصيّة، سيذهب «صانع التغيير» ليعوّضه «بطل التحوّل»…
16 تعليقات
تعقيبات: cole haan outlet near me
تعقيبات: vivienne westwood shoes online
تعقيبات: discount ugg outlet
تعقيبات: cheap mammut
تعقيبات: valentino outlet italy