عندما نعتبر لحظة 17 ديسمبر مفصلية لمن يرغب في تحديد طبيعة النظام الحاكم وماهيّة الصراع معه، كذلك تأتي لحظة 14 جانفي مهمّة على مستوى تحديد موازين القوى (حينها) وأيضًا رسم المنحى الذي سيتخذه مجرى التاريخ يومها أو ساعتها، ليس فقط وفق «الهوى» الشعبي [السائد افتراضيا] حينها، بل (وهنا الخطورة)، لحاجة من بقوا في السلطة، سواء الصفّ الظاهر أو ممن يجلسون في الكواليس، إلى «وقت مستقطع» أو هي فترة «بين الشوطين»، يستردّ فيه هذا «الفريق» أنفاسه. أيّ أنّ «السقوط» أو بالأحرى «مشهد الهروب» [التهريب في رواية أخرى] لم يأت البتّة استجابة ورضوخًا أو هو اعتراف أو ربّما تسليم بما تبادر أمام الكلّ من «هيمنة الشارع»، بل كان مجرّد لحظة لاستراد الأنفاس، مع ما يلزم من «الأضاحي» القادرة على «إلهاء» الجموع الجاهلة بأصول السياسيّة، وإفهامها أنّ «مغادرة بن علي المنصب» تأتي وتمثّل التجسيد الأفضل، بل المثالي لما هي «ثورة 17 ديسمبر»…
لم يغادر رجال «الماكينة» وظائفهم، على شاكلة من يترجّل عن جواد «السلطة» ليركبه «الثوّار» الجدد. المشهد تمّ اختصاره حينها بتعويض وقتي انقلب دائمًا. ربح رجال «نظام ما قبل 14 جانفي» أمورًا عديدة:
أوّلا: لم يعد العمق الشعبي بأكمله مستعد لمواصلة «الثورة» بالوهج ذاته، والاستمرار في التظاهر بالحدّة ذاتها «حتّى يسقط النظام»، وفق الصورة التي شاهدها العالم برحيل الشاه عن إيران ورجوع الخميني.
ثانيا: التسليم بما كان من «مغادر بن علي» منصبه، واعتباره «نصرًا» (استراتجيا)، يعني أنّ القوى السياسيّة التي كانت تقاوم بن علي، لا تدرك ولا تملك ولا تفكّر في قيام بأيّ «ثورة» على النمط الإيراني، بل جميعها دون استثناء تقريبًا أعرب عن «الاستعداد» للمشاركة في «حكومة وحدة وطنيّة»
ثالثًا: رفض «أحزاب المعارضة» التقليديّة فكرة «الثورة» (بمفهوم التطهير الشامل) رغم تبنيها خطابا ثوريا، في مقابل عجز قيادات الشارع عن تحويل «الطاقة الهادرة» (أيّ جماهير المظاهرات) إلى قوّة فاعلة سياسيّة، وعجز هذه القيادات أو رفضها التحوّل باكرا إلى لاعبين وفق القواعد المعمول بها بين بن علي وهذه المعارضات، أو هو ربّما هو الخوف والخشية ممّا «دنس السياسة» جعل المنظومة القديم تقف أمام «طرف مهادن» مقابل «طرف صارخ»: الأوّل لا يرى مصلحة (وفق التوازنات الاقليميّة والدوليّة) في تبنّي «الخيار الليبي»، في حين أنّ الثاني يريد إسقاط حلمه السياسي «الطوباوي» على أرض الواقع، بمعنى «كن فيكون»….
لذلك شكّلت فترة وجود الباجي في منصب رئيس الوزاء وكذلك فترة «حكم الترويكا»، ما يمكن أن نسميها «فترة نقاهة» ليس فقط «مدفوعة الأجر» للمنظومة القديمة، بل هي مضمونة النتائج، حين نجح الباجي في صدّ الأبواب أمام أيّ عمليات جذريّة وفشلت/رفضت حكومة الترويكا القيام بذلك، لتنطلق منذ اعلان نتائج 2014 أو حتّى قبلها، لعبة «استرداد السلطة» مفصلا مفصلا، أو هو خروج من كانوا في الخفاء إلى واجهة الأحداث، يفاخرون بماض (يرونه مجيدًا) أو هم يسعون ولا يزالون، ومن ورائهم ماكينة اعلامية، لا تشتغل لوجه الله، إلى تمييع «أخطاء ما قبل 14 جانفي» مقابل تضخيم الهفوات أو اختراع العديد منها ونسبها لكلّ من لا يقف في صفّهم.
الشعب خرج بين 17/14 يطلب إرادة الحياة فعلا وحقيقة، حين قدّم عشرات «الزواولة» [الدراويش وعلى باب الله، بالتعبير الشرقي] أرواحهم، لكنّ القدر لم يستجب وفق الشرط الالزامي الذي ابتدعه شاعر تونس الأوّل أبو القاسم الشابي. بل يمكن للشابي (افتراضًا) أو غيره من الشعراء أن يعارض ذلك البيت الشهير ضمن معنى أنّ «الشعب قدم الدماء من أجل إرادة الحياة، لكنّ «روما» [الحديثة] غمرت الأرض ملحًا لكي لا ينبت أيّ زرع كان»
لفهم طبيعة الصراعات الدائرة راهنًا والجميع (من يرى نفسه معنيا بالانتخابات القادمة في نسختها التشريعييّة والرئاسيّة) يعمل دون هوادة من أجل ضمان «الكرسي المنشود، وجب الرجوع إلى زمن بن علي والتأكيد على أمرين شديدي الأهميّة وعلى قدر كبير من الخطورة:
أوّلا: لم يبن بن علي دولة، بل هدم البعض الذي أسّسه بورقيبة، حين أسّس حكمه وهو يخشى الانقلاب عليه، لذلك فتّت الطبقات السياسية جميعها، كما فتّت الأجهزة الأمنيّة جميعها، بجعلها تتجسّس على بعضها البعض، ممّا محا أيّ «لحمة وطنيّة». فقط الاشتغال ضمن منطق «إرضاء المْعَلْمْ» بحثا عن ترقية أو مكاسب أخرى وأيضًا من باب الخشية الدائمة والمتواصلة والتي تحوّلت إلى هوس مرضي من تفسير «النجاح النسبي أو المنقوص قليلا» في صورة «الفعل المتعمّد، الذي يستوجب العصا والعقاب والزجر.
ثانيا: هناك خلط بخصوص النهضة، بما في ذلك بين صفوف قيادات الصفوف الأولى، بين شدّة الوجع الذي أصاب هذا «الكيان السياسي» وما صاحبها من «صراخ» (إعلامي) خاصّة خارج الحدود، والأمر مشروع ومفهوم، مقابل امتلاك النهضة لأيّ «مشروع ثوري» بمنطق إزالة عمق «الدولة العميقة» عند مسك الحكم، على شاكلة ما فعلته الثورة الإيرانيّة مع نظام الشاه. منذ اعدام شهيد الإخوان الثاني «السيد قطب» وصعود التلمساني والهضيبي لقيادة التنظيم، تمّ الاقرار والاعتراف الصريح بعدم القدرة على محاربة الداخل والخارج في الآن ذاته، لذلك جاءت كلّ «الحركات الثوريّة الإخوانيّة» على المدى العربي، مستندة في انتهازيّة سياسيّة للواقع الاقليمي والدولي الأمريكي/البريطاني خاصّة، سواء ما جدّ في حماه أو ما جدّ على مدى سنوات في سورية، حيث «الضوء الأخضر» أو هي الموافقة أو الدعم الأمريكي في غير حاجة إلى دليل.
لذلك نفهم «التفّكك الشديد» الذي أصاب «نداء تونس» منذ اللحظة الأولى لتقاسم غنيمة انتخابات 2014، بشقّ عصا الطاعة من قبل محسن مرزوق ومعيّته، والحبل على الغارب، لغياب أو هو فقدان «باني» [فتوّة أو بلطجي] على شاكلة بن يعامل من معه في عنف واحتقار وكلام معجمه تحت الحزام، يتولّى كذلك توزيع الغنائم وفق شروط يضعها بمفرده وصاحب حق (مقدّس) في إدماج من يريد ونبذ من أراد.
نفهم وندرك أنّ «حركة النهضة» تملك خوفًا مرضيا من الاقصاء، تعتقد أسوة برائعة «الملك العاري» أنّه يمسّ وجودها، لذلك لا يتعدّى «الخطاب الثوري» من قبل النهضة السقف الذي تتقاسمه هذه الحركة مع «أزلام نظام بن علي»، أو (وهذا الأصحّ) يتقاسمه (أو تقاسمه) الغنوشي مع جليسه وشريكه في «التوافق» الباجي قائد السبسي….
من ذلك ستجمع الانتخابات القادمة بين كبيرين يحمل منهما إعاقة الماضي وتشويهات الحاضر: لا سفيان طوبال (على سبيل المثال) يملك القدرة الذهنيّة لمجرّد تخيّل (التخيّل ليس إلاّ) أنّه «يزرع» وغيره «يحصد» وأكثر من ذلك يلتهم البلاد بل يزدردها. كما لا يمكن للنهضة أن تضع «مؤخراتها» (الافتراضيّة) على كرسي «الحكم» وفي الآن على كرسي الدفاع عن شعارات 17/14 المطالبة بعكس ما تفعله حكومة الشاهد التي تمثل هذه «الحركة» (ذات المرجعيّة الاسلاميّة) أحد أهمّ أعمدتها.
الخلاصة :
ورل يتزعبن [يعاكس] على زرزوميّة [سحلية]…
في رواية أخرى اجتمع «المتعوس» على «خائب الرجاء»…