المراجع للكمّ الهائل من التعليقات الصادرة عن التونسيين من العامّة وحتّى الإعلاميين والسياسيين، في غالبيتهم، سواء التي سبقت أو زامنت زيارة الرئيس التركي رجب الطيّب أردوغان إلى تونس، يكاد يتعتبر (لولا اللغة) أن أصحاب الكتابات والتعاليق هم من الأتراك الأقحاح الذين يحاسبون رئيس بلدهم، سواء من يعدّدون حسناته ويعدّون له سيئاته، دون تفويت أدنى إشارة أو قول أو حتّى صمت، أو ربّما نظرة.
حين نوسّع دائرة الرؤية ونرجع بالزمن إلى الوراء، نلاحظ (منذ الوهلة الأولى) حالة مرضيّة خطيرة، بما هو الانفصام بين الخطاب اللغوي القائم على «إعلاء الأخلاق» أو اعتبارها عنصر «المفاخرة» الأوّل والأفضل (أيّ التباهي والتفاخر بأخلاق الذات)، مقابل «نزع الأخلاق» عن الطرف المقابل (أيّ الأعداء)، ممّا جعل الفيصل الكلامي يكمن في مدى الإقناع بما هي «قداسة الذات» مقابل «تدنيس العدوّة»، دون أن ننسى الانحدار الأخلاقي المتواصل للممارسة السياسيّة، باعتراف الطبقة السياسية بكاملها…
رجوعًا إلى زيارة أردوغان، لا أحد من «المراجع الكلاميّة» الكبرى أو «صنّاع الرأي العام»، أعطى أو هو وضع الزيارة ضمن المعطى الطبيعي، أيّ «المصالح المشتركة» بمعنى ما هي المنافع الملموسة التي سيجنيها الجانب التونسي، من هذه الزيارة، سواء على المستوى الاقتصادي المباشر، أو صور المنافع الأخرى.
الجميع يبني صورة «أردوغان» لديه ومن ثمّة الموقف من الرجل وحزبه ونظامه ودولته، أبعد بكثير جدّا من العلاقات بين تونس وتركية، لتكون (أيّ الصورة) قائمة على المعادلتين الدولية والاقليميّة، في تقاطع الصراعات بين «طيف الإخوان» ممثلا بما هي تركية وقطر، ومن ورائهما من أحزاب وتشكيلات سياسيّة، مقابل محور «الرياض ـ أبو ظبي» الذي لا يخفي عداءه بل رغبته في تقليم أظافر هذا الثنائي، سواء عبر حصار قطر أو هو حال العداء المفتوح والمعلن، مع تركية…
الأطراف التونسيّة جميعها ودون استثناء، حدّدت موقفها من زيارة أردوغان بناء على الموقف من صراع «الأضداد» في الشرق العربي، ومن ثمّة تمّ تنزيل الزيارة وامكانيّة انتفاع تونس منها، ضمن خانة أوسع بكثير، بل تمّ التغاضي عن تفاصيل الزيارة في أبعادها المعرفية [أي نقل الخبر] حين قاطعت وسائل الإعلام الزيارة بالكامل، أو هي القنوات والمحطات الفاعلة وذات التأثير في الرأي العام.
يبدو إذا بصفة جليّة، خضوع الدائرة المحليّة للدائرتين الاقليميّة والدوليّة، بل أخطر من ذلك، تتناسى الطبقة السياسيّة، سواء منها الحزبيّة الفاعلة على الساحة أو ذات النفوذ الحكومي أو الرئاسي، هذا البعد المحلّي، أو مصالح تونس (جلب المنافع ودرء المخاطر) إلى شكل من التموقع ضمن المحاور، أو المحورين بالتحديد، القائمة فوق الخارطة العربية وخارطة الشرق الأوسط بالتحديد…
لا أحد يطلب أو يستطيع الفصل عضويا أو ميكانيكيّا بين هذه الدوائر الثلاث (المحليّة والاقليميّة والدوليّة)، بل من الذكاء والفطنة أو هي الفراسة السياسية، تفعيل الواحدة من أجل الأخرى، وبالتدقيق تفعيل الثانية والثالثة من أجل الأولى، من خلال شكل من التوازن القائم على المرجعيّة الأخلاقيّة القائمة، وكذلك التأكيد على البعد الاستراتيجي، في علاقة وثيقة بمصالح الأجيال القادمة…
الخطر أن الوضع الاقتصادي في تونس بلغ أو هو انحدر إلى مستويات لم يبلغها من قبل، وأخطر من هذا الانحدار ذاته حال التخبّط السياسي الذي تعيشه البلاد، حين غابت أو تمّ تغييب أي بعد استراتيجي، سواء تعلّق الأمر بالجوانب الاقتصاديّة الصرفة، بمعنى مستوى المؤشرات المتراجع، أو (وهنا الخطورة) الأزمة الاجتماعيّة أو هو التوتّر الاجتماعي الذي بدأ في منذ سنتين على الأقل، أشبه بما هي الحمّى التي ترفض الانخفاض.
أخطر من كلّ ذلك، أي الوضع الاقتصادي المتردّي وغياب الأفق بالمعنى الاستراتيجي وأيضًا التوتّر الاجتماعي، أخطر من ذلك حال الانشطار الذي تعيشه الساحة السياسيّة ومن ورائها الطبقة الإعلاميّة ومن ثمّة «العمق المجتمعي المثقف/المسيّس»، بما يشبه «منطق كرة القدم»، حين يأتي الموقف من تركية ورئيسها، متراوحا بين نقيضين، حين يناصر فريق تركية ورئيسها ويرى فيها الحليف والمثال بل المرجع والسند، في حين لا يخفي الطرف المقابل العداء المقيت لهذه الدولة ورئيسها وكذلك سياستها في بعدها الأيديولوجي أو مواقف حكومة أنقرة من أمّهات القضايا.
حين النظر إلى المشهد بأكمله وحين نذهب تمحيصًا ضمنه، يكون السؤال عن معنى تونس، الدولة والنظام والمشروع السياسي، حين يكنّ البعض من المحبّة ومن الإعجاب وحتّى التقديس لهذا الرئيس أكثر بكثير ممّا يكنّون من محبّة ومن إعجاب وحتّى من التقديس لرئيس بلادهم. في المقابل يظهر الطرف المعادي من الولاء ومن التبعيّة ويقدّمون من الخدمة للأطراف الاقليميّة والدوليّة التي تعادي تركية ورئيسها، ليس ما يفوق الولاء والتبعيّة والخدمة المقدّمة لدولتهم أو لرئيسها، ممّا يطرح أسئلة وجوديّة وحتّى فلسفيّة وحتّى أخلاقيّة، عمّا هي تونس في أذهان هذا الطرف كما الطرف المعادي…
في المحصّل لن يكون أردوغان (الرجل والرئيس والمشروع) كما يعشقه هذا ويمقته ذاك. لا هو الفارس المغوار الذي يمتطي جوادا عربيا أصيلا، يحمل سيفا ليملأ تونس عدلا واحسانًا، حين ملأها أعداء هؤلاء (وقنواتهم التلفزيونيّة) جورًا وفُجورًا وظلما. كما لن يكون ذلك الشيطان الذي يبحث عن امتصاص دماء التونسيين.
أردوغان رئيس دولة تركية، انتخبه الشعب التركي خدمة للمشروع التركي، حصرًا… فقط وهنا نقطة يتناساها هذا الطرف العاشق كما تترفّع عن فهمها الجهات الكارهة: ما هي نقاط التقاطع بين المصالح التركية وما عفل عنها أهل تونس من مصالح بلادهم…. لكلّ داء دواء إلاّ الحمق لا دواء له…