حين نجمع جميع الوعود التي أطلقها السياسيون التونسيون أثناء الحملات الانتخابية أو خارجها، بالتشغيل أو هو إحداث مواطن عمل، يمكن الجزم، ليس فقط بالقدرة على تشغيل جميع العاطلين عن العمل في البلاد، بل بوجوب إصدار قانون يفتح باب الهجرة على مصراعيه أمام «العاطلين عن العمل» من الدول الصديقة والشقيقة وحتّى البعيدة وراء البحار والمحيطات…
وعود تجاوزت المعقول أحيانًا، أو وجب (ربّما) أن نفتح «بورصة الوعود بالتشغيل» لنرى ونشهد حجم المزايدة وحتّى رفع السقف بين هذا الذي يقسم في شدّة وذاك الذي يجسم في حماس، بأنّ نهاية البطالة على يديه هو وليس المنافسين.
نتخيّل (فقط) مجرّد الخيال، حفلا بهيجا تنقله وسائل الإعلام المحليّة والعربيّة والاقليميّة، تغطي من خلاله، حصول أخر «عاطل عن العمل» على شغل، وكذلك (بالمناسبة) إصدار «بيان تونس» الذي يفتح الباب أمام هجرة العاملين إلى البلاد.
وعود فاقت الخيال، أو هي جديرة بكتب الأرقام القياسيّة، جميعها تحوّل إلى زبد وتروح هباءً، لكن أخطر من هذه الوعود وما صدقيّة أصحابها:
أوّلا: أنّها تفتح باب الأمل على مصراعيه أمام مئات الألاف من العاطلين الذين يعانون البطالة، لكن (وهنا الأخطر) انعدم عندهم الأمل (أو كاد) بالعثور على شغل يسدّ الرمق ويستر الحال، ممّا يعني تحوّل هذا العاطل، بحكم ضيق الأمل واتساع دائرة اليأس، إلى «قنبلة موقوتة» (فعلا)، سواء للمخاطرة بركوب البحر إلى الضفّة الشماليّة من البحر الأبيض المتوسط أو ركوب الإرهاب لدى التنظيمات الارهابيّة، أو المخاطرة بالموت في الصدامات مع الشرطة، أو حتّى الانتحار…
ثانيا: لا يمكن للعمق الشعبي أن يحترم طبقة سياسيّة احترفت (فيما احترفت) اطلاق الوعود «دون رصيد» دون أن تدفع ما يدفعه من يطلق «الشيك دون رصيد»، حين وجب الجزم أنّنا أمام حالات من الإدمان من بعض السياسيين وكذلك من عديد «الخبراء» الذين يطلقون الوعود دون رقيب أو حسيب أو حتّى جهة تملك القدرة على التذكير بهذه الوعود…
عادة، وفي تبسيط شديد وسذاجة أشدّ، يتمّ ربط مواطن الشغل بالتمويل فقط، أيّ ربط «كمّ المال» بما يقابلها من «كمّ مواطن الشغل»، في تجاوز من قبل السياسيين وحتّى الخبراء، لطاقة هذا الاقتصاد وقدرته، ومدى توفّر البنية التحتيّة أو حتّى وجود الكفاءات القادرة على الذهاب بهذا المشروع أو ذاك نحو النجاح…
كذلك لا يمكن أن نتخيّل (في حال توفّر جميع الوسائل) أن تكون حركة تشغيل حقيقية في فترة أقل من خمس سنوات، أي الفترة الفاصلة بين الفكرة المجرّدة من جهة يقابلها الشروع الفعلي في الانتاج سواء للسوق المحليّة أو التصدير…
الإعلام يتحمّل مسؤوليّة كبيرة في اطلاق هذه الوعود الكاذبة، وحتّى التي يدري أصحابها قبل اطلاقها باستحالة تحقيق بعضها، حين لا تملك وسائل الإعلام هذه، الرغبة أو المصلحة في محاسبة هؤلاء «الواعدين» ليس فقط حين أخلفوا الوعد، بل (وهذا الأخطر) حين يدركون منذ البدء أنّهم يمارسون عمليّة تحيّل سواء كانت انتخابيّة أو سياسيّة ضمن المعنى الواسع…
المشوار بين توفّر الفكرة والتمويل والقرار بالاستثمار من ناحية، والوصول إلى مرحلة الانتاج الفاعل والفعلي، تتطلبّ من الشروط الكثير:
أولا: وجوب أرضية تشريعيّة أيّ «مجلّة الاستثمار» تقدّم الحوافز للمستثمر، حين يبحث كلّ مستثمر عن تحقيق أعلى ربح، بأقّل استثمار، في أقصر فترة، وبأقلّ مخاطر… هذه هي معادلة التجارة والاستثمار والتعامل بالمالي، سواء للاستثمار أو المضاربة.
ثانيا: لا يمكن، بل يستحيل، ضمن «منوال التنمية» (المعتمد)، أن تتحقّق هذه «القفزة النوعيّة»، بل أقصى ما يمكن فعله هو تحسين طفيف في بعض الأرقام، لا غير…
دون اعتبارات «دوليّة» مكّنت عديد الدول الأخرى من تحقيق هذه «القفزات» في السابق، كمثل كوريا الجنوبيّة وتايوان واليابان وألمانيا وتركيا حديثًا، لا يمكن الحديث عن هذه القفزات، التي تتطلبّ تمويلات ضخمة في زمن تراجع فيه سعر برميل النفط وصارت أوروبا (المموّل التقليدي والشريك الاستراتيجي) تعاني من مصاعب هيكليّة وصعوبات عديدة في مجال السيولة….
لا يمكن فصل التشغيل عن الدوائر الاقتصاديّة الأخرى، خصوصًا عندما يتعلّق الأمر بأرقام مثل التي أطلقها السياسيون، حين يمكن لهذه الشركة أن تنجز مشروعا هنا بمئات العملة أو أخرى في مكان آخر، لكن الحديث عن «الكمّ» المذكور، يتطلّب توفّر ما لا قبل لأيّ جهة تونسيّة (أطلقت وعود) به….
توسيعًا للدائرة، يمكن الجزم بحقيقتين:
أوّلا: عدد مواطن الشغل بالنسبة للمبلغ ذاته في تناقص شديد. مثلا كان مبلغ مليون دينار قادر على احداث عدد معيّن من مواطن الشغل في السبعينات. مع ارتفاع الكلفة وتراجع العملة المحليّة صار العدد إلى انخفاض، ومن ثمّة لا يكفي ذكر الأرقام (أرقام التمويلات) لنحصل على عدد مواطن الشغل.
ثانيا: في ترابط الاقتصاد بالسياسية، وفي حاجة تونس للاستثمارات الخارجيّة المباشرة، يمكن الجزم أنّ الأرقام الكبرى (أيّ الاستثمارات الضخمة)، تتجاوز البعد المالي والاقتصادي أو هي الرغبة (التقليديّة) في الاستثمار (العادي) إلى أن تكون وتصبح سياسة دول، كما فعلت الولايات المتحدة حين أرست «برنامج مارشال» لإعادة اعمار أوروبا خوفا من سقوطها بسبب البطالة والفقر تحت براثن الشيوعيّة….
من الأكيد أنّ من يطلقون هذه الوعود في تونس، في شكل «الوعد الصادق» هم أشبه بالمزاطيل أمام عمق شبابي يكره الوعود الكاذبة…
77 تعليقات
تعقيبات: new balance factory store
تعقيبات: cheap roger vivier shoes
تعقيبات: merrell outlet online
تعقيبات: michael kors outlet
تعقيبات: north face on sale