جاءت الانتخابات التشريعيّة في كلّ من المملكة المتحدة وألمانيا، لتؤكّد ما صار في حكم اليقين، أيّ صعود ما يسمّى «اليمين المتطرّف»، بل أكثر من ذلك، تتساقط العواصم الأوروبيّة مثل أوراق الخريف أمام هذا «المارد» الذي يطلق على ذاته صفة «السيادي» في مواجهة الأحزاب التي (يراها) اختارت «التفريط» في قرارها لصالح الاتحاد الأوروبي.
سؤال لا يزال عالقًا بين هذا التيار الذي اكتسح أو على أقلّه أصبح له وجودًا فاعلا في أكثر من بلد، بل من المؤكد أنّه سيتحوّل إلى «المعضلة الكبرى» و«الرقم الصعب» في جميع المحطّات الانتخابيّة المقبلة، يتعلّق بالقيمة التي تحتلّها «الديمقراطية» ليس فقط في صورة «الآليّة» المنتجة للنخبة السياسيّة الماسكة لمقاليد الحكم وحتّى الماثلة على الساحة السياسيّة، بل أساسًا تلك «الروح» التي بشّر بها «الآباء المؤسسون» في جميع البلدان الغربيّة، وأساسًا ألحّ على أهميتها مفكرون مثل Étienne de La Boétie وأيضًا Alexis de Tocqueville، دون أن نُغفل ميراث الثورة الفرنسيّة ومثيلتها الأمريكيّة. نهاية بالكاتب والمفكّر الأمريكيFrancis Fukuyama الذي نظّر وبشّر واعلن في لهجة اليقين أنّها (أي الديمقراطية على النمط الغربي الليبرالي) ليس فقط «سترث الأرض وما عليها»، بل هي أشبه بما هو «الصراط المستقيم» الذي وجب على جميع الأنظمة دون استثناء أن تجتازه…
لم تنف «الأحزاب السياديّة» التي وصلت إلى سدّة الحكم أو في أقلّه ارتقت من هوامش رقعة الشطرنج السياسة إلى لعب أدوار الصفّ الأوّل، الديمقراطية في ذاتها، بل فقط اشتركت في التعبير على أنّ النخب التي حكمت قبلها، ليس فقط أساءت (ولا تزال) استعمال هذه «الآلية»، بل (وهنا الخطورة) استعملتها ضدّها (أيّ الأحزاب السياسيّة)، ليتأسّس فكر جديد قائم على اليقين بأنّ «الديمقراطيّة» (في صورتها المعتمدة في الغرب) تمثّل «خطرًا» على الديمقراطيّة ذاتها، وأساسًا على «سيادة الشعوب» ومستقبلها…
الأسئلة تجاوزت الأبعاد الفلسفيّة والفكريّة إلى الطرح على مائدة التداول بين الخيارات الممكنة لإلغاء هذا «الزحف الأسود» على أوروبا…
في ألمانيا مثلا، يرى 48 في المائة من المواطنين حسب استطلاع للرأي «وجوب حظر اليمين المتطرف لتعارض هذا الفكر مع دستور البلاد»، في حين يعتبر طيف واسع من المفكرين أنّ «القرار وإن جاء سليمًا من الناحية القانونية، إلاّ أنّه سيكون غيبيا في بعده السياسي». بل إنّ «اللجوء إلى «ثقافة الإلغاء» Cancel culture السائدة في الولايات المتحدة، وإنّ مثّل حلاّ لدى البعض في ألمانيا، إلاّ سيقود إلى الخراب كما يظهر من نتائج القرارات التي يتخذها الرئيس ترمب»
حزب «البديل من أجل ألمانيا» AfD الذي تراه بل تعتبره الأغلبيّة الغالبة من الألمان «يمينيّا متطرّفا»، صار أقرب إلى «الأحجية» بالنسبة للطيف المعارض له. بمعنى أنّ القبول به مستحيل، وكذلك لا يمكن التخلص منه بمجرّد أمر قضائي، رغم تصنيفه من قبل «جهاز حماية الدستور» (الاستخبارات الداخلية) بتاريخ 2 ماي الماضي، «يمينيا متطرفا».
تزداد الأحجية تعقيدًا، بل تدخل متاهات يبدو الخروج منها أقرب إلى المستحيل. لم يأت توصيف الحزب بـ«اليميني المطرفّ» من قبل «الاستخبارات الداخليّة» (الألمانيّة) مجرّد رأي عابر، بل بناء على تقرير من 1100 صفحة يرى من خلالها هذا الجهاز أنّ «نظرة الحزب لمفهوم الشعب تقوم على الأصل العرقي»، أيّ أنّه يميّز بل هو يفصل بين من يراهم «مواطنين كاملين»، وهم الألمان الأصليون، و«المواطنين الفرعيين»، من خلفيات مهاجرة، وخاصةً المسلمين»، الذين يتم النظر إليهم أحيانًا «في مرتبة الحيوانات». أمر تعتبره الاستخبارات الداخليّة الألمانية «انتهاكاً للمادة الأولى من دستور عام 1949»، التي تنص على أن «كرامة الإنسان مصانة».
تجدر الإشارة إلى هذا الحزب هو الحزب المعارض الأكبر، حيث حصل على خُمس الأصوات في الانتخابات التشريعية…
بمجرّد صدور التقرير، تشكّل «حلف» امتدّ من اليسار مرورا ببعض قادة حزب الخضر، والحزب الاشتراكي الديمقراطي الاشتراكي الديمقراطي، وكذلك الحزب الديمقراطي الاجتماعي، وحتّى الحزب الديمقراطي المسيحي، تنادي صراحة بحظر الحزب…
الرئيس الأمريكي دونالد ترمب سارع إلى التنديد بما سمّاه «استبداد» [القيادة السياسيّة في] برلين [العاصمة]». علمًا وأنّ التقرير التي أنجزه «جهاز حماية الدستور» لم ير النور بعد، وبالتالي لم يتمّ مناقشته داخل البرلمان الألماني، ممّا زاد الأمر غموضًا والمسألة تعقيدًا…
بدأت تتملّك النخبَ الفكريّة والسياسيّة التي تنسب ذاتها إلى الديمقراطية وروح الجمهورية قناعات تزداد ترسيخًا أنّ الخيار تجاه «المدّ المتطرّف» ينخرط ضمن المفاضلة بين السيءّ والأشدّ سوءا، حين يمثّل القبول والتسليم بالشرعيّة الانتخابات لأحزاب اليمين المتطرف أشبه بما هو «شرب السمّ» على سبيل التجربة.
كذلك الأمر في حال التصدّي لها بالقوّة والتعامل معها من منظور أمني بحت… ستنقلب هذه الأحزاب إلى تنظيمات سريّة تجد في شعور «الضحيّة» وتعرضها إلى «المؤامرة» أفضل من ينفخ على نار الحرب الأهليّة؟؟؟