عند الحديث أو ذكر أسماء مثل الصحابي «حمزة بن عبد المطلب» (رضي الله عنه) أو «هند بنت عتبة»، يقفز خيال السامع فورًا (في نسبة كبيرة جدّا) إلى شخصيّة الممثل المصري الراحل «عبد الله غيث» (رحمه الله) والممثلة السوريّة «منى واصف» (أطال الله عمرها وأمدّها بالصحّة والعافية)، وما قدّما ضمن فيلم «الرسالة» من «صورة» عن هذين الشخصيتين. هذا «القفز الآلي والأتوماتيكي» مردّه أنّ «المعرفة السينمائيّة» (وكذلك التلفزيونيّة) ترسخ في الذهن أعمق (بكثير جدّا) من «المعرفة التقليديّة»، ممّا يعني (وهنا الخطورة والأهميّة) أنّ «ثقافة الصورة» (السينما والتلفزيون) لم تعد تصنع «خيالا» يتماهى مع الواقع من خلال «جماليّة الفرجة» ولذّتها، بل (وهنا مربط المسألة) انقلبت هذه «الجماليّة» إلى «صناعة الوعي» (الجديد)، بمعنى «صياغة حقيقة» تلغي وتعوّض، بل تنفي «الحقائق التاريخيّة» سواء في بعدها «الثابت» (بالدلائل) أو «الماثل» (بفعل المعتقد)…
من ذلك لم يعد من الممكن (علميا) الحديث عن «دراما» (سينمائيّة أو تلفزيونية) منقطعة عن الواقع أو (هي) كما تؤكد عديد الأعمال الدراميّة، وتكتب من باب التحذير ورفع المسؤوليّة الأخلاقيّة وكذلك القانونيّة أساسًا: «لا علاقة لها بالواقع وكلّ تشابه يأتي من قبيل الصدفة» لأنّ العلاقة «السببيّة» ثابتة في تجاوز للنوايا وفي ترفّع عن «نظريّة المؤامرة»…
ضمن الواقع الأمريكي، تتخذ هذه «الصناعة» (أيّ صناعة الوعي) أبعادًا «احترافيّة» متميّزة، بل الأرقى (بدون منازع) على المستوى العالمي، في تجاوز شديد للتجارب السينمائيّة (والتلفزيونيّة) الأخرى، حين يتلاقى «القطب السياسي» (أي منظومة الحكم) مع «القطب المالي» (أيّ منظومة الاستثمار) بمعيّة «القطب السينمائي والتلفزيوني» (أيّ منظومة الصورة)، لتتكوّن آلية «صناعة»، تمكّن (في الآن ذاته) من «تمرير» الثقافة الأمريكيّة وترسيخها في أبعادها الحضاريّة والاستهلاكيّة خاصة، دون اغفال جانب «الربح» (المالي)، حين تأتي صناعة «السينما والتلفزيون» من أرفع القطاعات مردودًا (أفضل من المخدرات)، وكذلك (وهذا الأهمّ) القطاع الأفضل على مستوى التصدير في الولايات المتحدة، في تفوق على قطاع الأسلحة.
من ذلك تأتي إشارة إحدى المسلسلات الأمريكيّة إلى «ضرب الجزائر بالأسلحة النوويّة» متجاوزة لمجرّد «خيال» (لا علاقة له بالحقيقة)، لتصبح بحسب منظومة صناعة الصورة وصياغة الوعي «جزءا» من الحقائق التي تريد هذه المنظومة (أيّ السياسة والمال والسينما) ترسيخها في الوعي الأمريكي..
تجاوزا لبعده «الدبلوماسي» (السطحي)، يأتي اعتذار السفيرة الأمريكيّة في الجزائر، مجرّد ضحك على ذقون الجزائريين (السلطة والشعب) لأنّ المسألة لا يمكن أن تعني «خيالا» بقدر ما هي «رؤية» تبغي «صناعة وعي»
«الحكاية» تندرج ضمن أفق «الاعداد» (الذهني والمادي) للخطط الأمريكية الجارية والمتحركة، من أجل صياغة وعي، يذهب إلى اختيار هذه السياسة (أي الانتخابات) وكذلك مباركة هذه السياسة واسنادها (أيّ قيس الرأي العام)، ليكون التماثل بل «الاسقاط» بمعنى أن يرى «الفرد الأمريكي» (من يمارس التصويت ويدفع الضرائب) ذاته (كاملة) من خلال (هذه) «السياسة»…
على مدى تاريخها، استطاعت منظومة (الحكم، المال والسينما) أن تعيد «عجن» الوعي الأمريكي بل وصناعته من جديد، وفق الخيارات الاستراتيجية الكبرى التي تأسّست عليها الولايات المتحدة:
أوّلا: التأكيد على «ريادة» الولايات المتحدة الأمريكيّة للحضارة البشريّة، سواء في الداخل الأمريكي، من خلال تدمير البنية الانسانية والحضاريّة للسكان الأصليين، أو خارج الولايات المتحدة على كامل الكرة الأرضية من خلال حروب لا تنقطع، بل يصل الأمر إلى ركوب الفضاء والمجرّات الأخرى. أينما كان، الأمريكي (الفرد والحكم والثقافة والحضارة) هو الرائد، ومن ثمّة «المسيطر» بطبيعة الأمر على الواقع القائم والمستنزف الوحيد للثروات.
ثانيا: نظرية الصراع الدائم، أيّ أنّ الأمريكي (الفرد والحكم والثقافة والحضارة) في حرب دائم وصراع متواصل مع «قوى الشرّ» على الأرض الأمريكيّة، انطلاقا من «شيطنة» السكّان الأصليين، وعلى مدى الكرة الأرضيّة، عبر «شيطنة» كامل من يعادي الولايات المتحدة، وصولا إلى «شيطنة» سكّان الكواكب الأخرى «المفترضين»…
يكفي محادثة الأمريكي العادي، للتأكد من أن صورة «الأخر» (مهما كانت) تأتي مطابقة مع «الصورة» السنيمائيّة والمسرحيّة، بدءا بزمن «الحرب البادرة» حين صنعت المنظومة «الحكم والمال والسينما» مسلسلا يحكي، بل يمجد أعمال «المقاومة الأمريكيّة» أمام «الاحتلال السوفيتي والكوبي» الذي استطاع السيطرة على كامل الولايات المتحدة، في تأكيد شديد على العنف الذي مارسه الجيش السوفيتي (بما يشبه عنف الجيش النازي) في مقابلة «نذالة» الكوبيين الذي جاؤوا أقرب إلى «المخبرين»…
يؤكد الخبراء بل يجزمون أنّ حكم الولايات المتحدة الأمريكيّة قائم بالأساس على عنصرين اثنين:
أوّلا: الدولار الذي غزا العالم إثر الحرب العالميّة الثانية، مما يمكن السلطات الأمريكيّة من «طبع الدولار» دون الخوف من التضخّم،
ثانيا: الآلة الاعلاميّة والسينمائيّة والتلفزيونية، القادرة (في الآن ذاته) على «صياغة» الوعي (في الداخل) في مقابل «تمجيد» النمط الأمريكي في الخارج، ومن ثمّة تقديم السلع الأمريكيّة في أفضل صورة، كما تبرير سياسة «الأخيار» الأمريكيين في مواجهة «الأشرار» (الأخرين)..
هي آلة (بالمعنى الحقيقي للكلمة) تتجاوز ضرب الجزائر بأسلحة الدمار الشامل، إلى وضع منظومة «عنصريّة» حقّا، تستبيح أراضي الأخرين، بل تنفي عنهم صفة الإنسانيّة، ومن ثمّة تحسم «المعركة» (في الجزائر وغيرها) قبل الانطلاق، ممّا يجعل ضرب هيروشيما وناكازاكي بأسلحة الدمار الشامل من الأمور ليس فقط «المعقولة» وكذلك «المطلوبة» بل «الضروريّة» كما صرّح «ترومان» (الرئيس الأمريكي حينها) «من أجل إيقاف الحرب»!!!!
في المحصّل، سيبقى «العقل الجزائري» بين «غضب عابر» مقابل «استهزاء سطحي» من هذا المسلسل الذي استباح الأرض والبشر «خيالا» في حين لا تزال منطقة رقّان وما جاورها تعاني من أثار القنبلة الذريّة التي فجرتها فرنسا في الواقع، حين يأتي الواقع الفرنسي أشنع من الخيال الأمريكي…