مع الاعتذار من المتنبّي….
قرار حركة «حماس» بحلّ «اللجنة الإداريّة»، أي «السلطة المدنيّة» القائمة على شؤون العباد في غزةّ، اعتبرته قطاعات واسعة من الفلسطينيين وغير الفلسطينيين، في صورة «بداية التنازل» عن نتائج «الانقلاب/الحسم العسكري» الذي أفضى إلى سيطرة الحركة على شؤون القطاع، وتحملها مسؤولية الشأنين المدني والعسكري، كما الأمني، ممّا جعل منها (أيّ حماس) «سلطة أمر واقع»، سواء أرادت هي «تكوين إمارة» أو اعتبرها «الناس» (في داخل القطاع وخارجها) المسؤولة الأولى/الوحيدة عن توفير ضروريّات الحياة لأكثر من مليون انسان، يعيشون على أرض تشهد أرفع كثافة سكانيّة في العالم، وكذلك تشهد تراجع في مستوى الخدمات عامّة والاجتماعيّة خاصّة، إلى درجات تجعلها (بمفهوم الأمم المتحدة) «منطقة منكوبة» سواء بفعل الحصار المستمرّ والمتواصل، أو الحروب التي شنّها العدّو الصهيوني الغاصب على هذه البقعة من الأرض وأهلها…
تأتي هذه «الخطوة» من حماس في ظلّ متغيّرات اقليميّة ودوليّة بالغة الأهميّة، بل الخطورة وفي ظلّ تسارع لم تشهد المنطقة مثيلا له من قبل:
أوّلا: التطوّرات ضمن دائرة «الواقع الخليجي»، حيث الصراع بين الإمارات والسعوديّة من جهة مقابل قطر من جهة أخرى، تأتي الحركة معنيّة به، لقربها العقائدي واصطفافها بحكم الأمر الواقع والتاريخ إلى جانب الدوحة وحالة العداء المفتوحة مع الإمارات والسعوديّة، خصوصًا منذ تصنيف الحركة في صورة «الحركة الارهابيّة» إبان «قمّة ترامب»، ومعنيّة أكثر بنتائج «صراع الاخوة الأعداء» ومرّتين أكثر بالتأثيرات الجارية أو المستقبليّة لهذا الصراع على خارطة المنطقة وجدليّة فرز القوى فيه،
ثانيا: التطوّرات على مستوى الملفّ السوري/العراقي، من سيطرة متزايدة لحلف «دمشق/بغداد» والفصائل الحليفة، على مساحات متزايدة من الأرض وتحقيق انتصارات حاسمة على (ما يسمّى) «داعش»، مع عودة الدفء إلى علاقات الحركة مع «محور المقاومة/الممانعة»،
ثالثًا: قرب الاستفتاء الكردي، الذي سيقود (سواء تمّ في موعده أو تمّ تأجيله) إلى نشأة «كيان كردي»، يجد دعمًا إعلاميّا وسياسيّا وعسكريّا من قبل الكيان الصهيوني الغاصب وكذلك الإدارة الأمريكيّة، ومن ثمّة ينتصب هذا «الكيان الكردي» في صورة «العدوّ الطبعي» لحركات المقاومة الفلسطينية، ولمشروع الدولة الفلسطينيّة، مع ما يعني ذلك من فرز «جديد/متجدّد» لجدليّة الصراع في المنطقة، سواء على مستوى التحالفات أو العداوات…
كلّ هذه التغيّرات الاقليمّية ذات التأثّر والتأثير في المعادلات الدوليّة، تنبني وهي كذلك ذات فعل مباشر في المعادلة الفلسطينيّة:
أوّلا: «إذابة» جزء من الجليد مع القيادة المصريّة، حين يعلم السيسي ومن معه أنّ الجبهات المفتوحة على مصر أو التي فتحتها مصر، والموزّعة بين «ظهير» ليبي ساخن، وعمق سوداني/أثيوبي شديد التأثير من خلال «إعادة توزيع» مياه النيل، دون أن نغفل الصراع في اليمن، الذي قد يقود إلى إغلاق «باب المندب» سواء بحكم التهديدات الصاروخيّة المباشرة، أو ارتفاع كلفة التأمين التي ستجعل المرور عبر رأس الرجاء الصالح، أقلّ كلفة. كلّها إضافة إلى الأزمة الاقتصاديّة الخانقة، تجعل القيادة المصريّة، على يقين أنّ «ملفّ غزّة» يأتي الأيسر بين هذه الملفّات، بل هو القابل للتنفيس أو للتجميد من خلال فتح مدروس لمعبر رفح، ومساهمة مصريّة (بمقدار) في تحقيق المصالحات الفلسطينيّة المزمنة.
ثانيا: أدركت حماس منذ سنوات، أنّ الصراع داخل «فتح» بين رئيس السلطة الحالي محمود عبّاس من جهة ومحمّد دحلان سيصل يومُا ليكون لدى الطرفين أعمق من صراع كلّ منهما مع حماس، ومن ثمّة يمكن للحركة أن تناور بين الطرفين، خاصّة بفتح «النقاش» مع الجهة «الأضعف» أيّ محمّد دحلان، الذي يربح بمجرّد قيام «الحوار/النقاش» بينه وبين حماس، على أيّ مستوى كان، «شرعيّة»، سواء «شرعيّة» الجلوس إلى مائدة «المصالحات» (القائمة/القادمة) أو (وهذا الأهمّ)، تلغي عنه (جزئيّا أو كلّيا) صفة «الخيانة/العمالة» التي أكدتها الحركة على السنوات الماضية، ولعبت عليها وعمّقتها «قيادات رام الله» سواء حكومة «حمد لله» أو «حركة فتح» لذاتها.
لذلك، لعبت حركة حماس (الداخل) ورقة التنازل عن «اللجنة الإداريّة»، لأنّها تعلم أنّ مجرّد الإعلان كفيل بخلق متغيّرات على مستوى «المخابرات المصريّة» (الماسكة لملفّ غزّة) وكذلك (وهذا الأهمّ) على مستوى «المعادلة الفلسطينيّة»، أساسًا حركة فتح برأسيها، دون أن ننسى عمقًا فلسطينيا ملّ «الانقسام» وعمقا بشريّا في غزّة يعاني من فقدان كلّ شيء، من الحقنة الطبيّة إلى الكهرباء.
صارت «كرة اللجنة الإداريّة» في الملعب الفلسطيني/الاقليمي/الدولي، ولم تعد حماس معنيّة «أخلاقيّا» بما هو الوضع المعيشي القاسي والصعب، بل شديد الخطورة في غزّة، في حين وجب على «سلطة رام الله» أن تقابل هذا التنازل بما يجب من «انفتاح» على التفاوض الذي سيقود «افتراضًا» إلى عودة «الروح» إلى «السلطة الواحدة» على الضفّة والقطاع، لكن على «سلطة رام الله» أن تقرأ وجود «دحلان» (بمباركة مصريّة) ضمن المعادلة، ليكون الصراع على مستويات عدّة: صراع «أخوي» من أجل انقاذ غزّة من وضعها المتردّي انسانيا، في مقابل «صراع» دام وربّما دموي بين رأسي فتح، حول من يجلس على أيّ كرسي، عندما يحين (ذات يوم) مناقشة «الوضع النهائي» سواء بين الأطراف الفلسطينيّة أوّلا، أو على مائدة الحوار الدولي/الاقليمي….
تتّكل حماس على تأثير فعلها بالتنازل عن «الإداريّة المدنيّة» وعلى عنصر «التفاعل/التطاحن» بين رأسي «فتح»، لتذهب مصر في فتح جزئي للمعبر، بصورة تكون أفضل من حال السنوات الفارطة، وأساسًا في أن يدوم صراع «الإخوة الأعداء» داخل فتح أطول وقت ممكن، ليواصل الجناح العسكري للحركة ربح الوقت وتأمين أقصى درجات التسلّح والتدريب، لأنّ قيام أيّ حرب قادمة في غزّة سيعيد الكرة إلى منتصف الملعب، أيّ يلغي التنازل «الشفهي» عن «الإدارة المدنيّة»، ويجعل من (هذا) «الجناح العسكري» صاحب قرار «نقض» مسبّق لكلّ محاولة اللعب فوق أرض غزّة على شاكلة الرسالة الصوتيّة التي بثّها «قائد أركان القسّام» محمّد ضيف للمفاوضين الفلسطينيين حين توجهوا للقاهرة إبّان العدوان الفارط، بأنّ «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة».