دون الحاجة إلى دراسات علميّة أو قراءات أكاديميّة، يمكن الجزم أنّ «الماكينة الاعلاميّة» تمثلّ الصانع الأبرز بل الأهمّ، إن لم نقل الغالب لما هو «الرأي العام» الذي يمثّل «علميّا» القاعدة الأساس سواء للتعامل اليومي مع «الوضع السياسي» (في البلاد) أو مع «قواعد صناعة النخبة»، أساسًا من خلال الأسماء التي يصنعها الإعلام أو يصنع لها مجدًا، أو (والأمر لا يقلّ أهميّة) التي يصنعها الإعلام ليستهلكها (أي يختارها) الجمهور خلال «الانتخابات».
لذلك يمكن الجزم أنّ تحليل «الظاهرة الاعلاميّة» (في تونس) يشكّل أحد أهمّ وسائل قراءة المشهد السياسي (القائم) سواء على مستوى استقراء «القرار السياسي» (القادم) أو (وهذا أخطر) استشراف المستقبل السياسي للبلاد والعباد على حدّ السواء…
من الأكاذيب الشائعة، بل التي انطلت على الجميع (أو يكاد) القول بل الجزم، إن لم نقل «المفاخرة» بهذا «التعدّد الإعلامي» الذي تعيشه البلاد، حين يؤسّس الساسة (على مستوى الخطاب) لما هي «الصورة الديمقراطيّة» (للبلاد والعباد) من خلال «الفسيفساء» الماثلة أمامنا على المستوى الإعلامي….
على المستوى الكمّي انفجر المشهد الإعلامي التونسي أو بالأحرى المتوجه إلى المشاهد التونسي، مع توسّع شديد في «المدى الممكن» أو هو «المتاح» أمام كلّ «مؤسّسة» لتذهب في «المعالجة» (أي التطرّق إلى أيّ موضوع) أبعد (بكثير جدّا) ممّا كان عليه الوضع، لحظات قبل «تهريب» بن علي…
من هبّ ودبّ من الساسة والسياسيين، يعتبر «ارتفاع العدد» وكذلك «توسّع المدى» دون اغفال «الصراع بين الوسائل»، ليس فقط «الدليل المادّي» على وجود «الديمقراطيّة»، بل (وهذا الأخطر) «الضامن» الأكبر (إن لم يكن الأوحد) لهذه «الديمقراطيّة»
مشاهدة بسيطة لكلّ قناة تلفزيونيّة مثلا (على حدة) يثبت (دون الحاجة إلى دليل) أنّها (على مستوى الأداء) تأتي صورة (طبق الأصل) لما كان عليه «الإعلام» زمن بن علي، أيّ ذلك «الالتزام» (الدقيق بل المرضي) بما هو «التوجه» (الأحادي)، دون أدنى اعتبار لما هي شروط العمل الصحفي في حدّها (الأخلاقي) الأدنى، سواء منها المعلنة في «ميثاق الشرف» (الصحفي) أو ما يتداوله المثقفون كما العامّة بالفطرة.
كلّ قناة اعلاميّة، أصبحت «سلاحًا» في يد «جهة سياسيّة»، فقط يحدث (وهذا حدث بما هو غير خاف) أنّ غيّرت قناة خطّ تحريرها (قناة نسمة مثلا) ليس من باب «استفاقة الضمير» (المفقود أصلا) أو «عودة الوعي» (الغائب بالفطرة)، بل (فقط وحصرًا) أنّ الذي يدفع المال ويملك السلطة (ومن ثمّة يحدّد الخط التحريري) قد تغيّر، على قاعدة «المصلحة» المباشرة والآنيّة، بمعنى (كما يقول الدستور الأمريكي) «أن من يدفع المال يملك السلطة»…
من ذلك، ما نشهده في تونس لا يعدو أن يكون (بالمفهوم العلمي الدقيق) على مستوى القنوات التلفزيونيّة سوى «مستعمرات» (سمعيّة بصريّة) تخدم «وليّ الأمر»، ولا تعمل وفق أدنى «قاعدة مهنيّة» بما في ذلك «الإعلام المهادن» (القنوات الواقعة تحت قبضة النهضة) التي تفعل ذلك من باب اسقاط «القرار السياسي» على «المفاعيل الإعلاميّة» وليس من باب «طوباويّة» معلنة أو «كرم أخلاق» فائض عن حدّه، في مقابل من أرادت لها «قيادة النهضة» أن تكون مشاكسة، من باب «رفع العتب» (أمام القاعدة الشعبيّة) ووفق صراع مواقع داخل الحركة…
في المحصّل، لا هي تعدّدية ولا هم يحزنون، ولا هو «التنوّع» الذي يمثّل الشرط الأساسي بل الضروري (إن لم نقل الحاسم) لوجود (ما يسمّى) «الدمقراطيّة»، فقط (وهذا بسيط وممكن على مستوى التشخيص) يكفي قراءة تقاطع «خارطة السياسة» من جهة، مع «شبكة المال» واسقاط الأمر كما هو الظلّ الذي يتبع مصدر الضوء، لتكون أمامنا «الخارطة الإعلاميّة»…
جماهير «الفايسبوك» (مع الاحترام لمن يستأهل التقدير ويستحق الاحترام) أشبه بذلك الذي ينظر إلى الإصبع عندما أشار العالم إلى القمر، أيّ أنهم ضحايا يتابعون «الظاهر» ويتأثرون بما هو «آني»، حين تشكّل ثنائيّة «الظاهر» وكذلك «الآني» أساس «لعبة الفرجة» التي هي أساس ثنائيّة «الاقتناع» على قاعدة «الإدمان»…
حالة مرضيّة تستوجب المقاربة السيكولوجيّة، أن يهجر (مثلا) جمهور «نهضة» قنوات «النهضة»، سواء عندما كانت «زمن العزّ» أو حثالة ما تبقّى منها، ويشاهد، بل يدمن في حالة أشبه بالمرضيّة، قنوات، هي على مستوى الخطاب والشكل، وكذلك «الوعي» ومن ثمّة «الرسالة»، نقيض ما يفترض أن قامت عليه النهضة أو قامت من أجله، على الأقل ما يحمل «عمقها الشعبي» من إيمان…
تعيش تونس بين نمطين لإعلام يمثلان عملة واحدة. «إعلام عار» (كما يسمّيه أعداؤه)، هو أقرب إلى الصورة «شديدة التركيز» عن الإعلام «زمن بن علي» مع إضافة (وهذا وجب الاعتراف به) جرعة كبيرة جدّا (بل متميّزة) من الحرفيّة (على مستوى الجماليّة) لما تراه العين وما تلتقطه الأذن، في مقابل «إعلام» نشأ على قاعدة «العذريّة الثوريّة» التي لم يجاوزها إلى «حرفيّة مفقودة» أو هي شبه معدومة، ليكتشف المشرفون على هذه القنوات، أنّ (هذه) «العذريّة الثوريّة» تأتي أقرب إلى خزّان ضخم جدّا، لا وقود فيه ولا هم يفرحون…
المصيبة أنّ برهان بسيّس (عندما وجبت التسمية) لا يعلم ولا يدري، بل لا يعي، أنّه لم يمارس أدنى قطيعة «أبستمولوجيّة» (أيّ معرفيّة ومن ثمّة وظيفيّة) مع ما كان يتعاطى (هو أو الجهاز العامل بمعيّته) زمن بن علي، فقط (وحصرًا) أضافوا جرعات «ممتازة» على مستوى جماليّة الفرجة، دون أن يغيّروا أو ينزاحوا قيد أنملة عن «المنوال الاعلامي» الذي صنعه «صانع التغيير» أو أمر بصناعته.
المصيبة ذاتها، بل أعمق على الوجه الأخر للعملة، حين لا يستأهل أيّ منهم التسمية، حين نرى ولعًا بتلك «العذريّة الثوريّة» التي لم ينفع معها رتق ولا إصلاح، حين تحوّلت (أو هي سقطت) من «غمامة راعية» إلى «لبّان ممجوج» مضغه من هبّ ودبّ، في مناسبة وغير مناسبة، «أتقياء الثورة» كما «أبالسة الأزلام» فقط هو تلبّسٌ في بعده الفرجوي (أسوة بما تفعله قنوات «العار»).
في المحصّل (من باب الخلاصة) يمكن الجزم، أنّنا أمام «اعلام عار» بصدد حرق رصيده من أعواد الثقاب من أجل البحث عن أعواد ثقاب لن يعثر عليها أو على العدد الأكبر منها، أيّ أنّه (بالمختصر المفيد) يخلط بين «جماليّة المشهد» (التي لا تقبل النقاش) مقابل «الجدوى الفعل» (بالمفهوم الاستراتيجي) حين لا ينكر برهان بسيّس أنّ «المنظومة الكبرى» (التي أسّسها بن علي) قادت إلى «سقوط مدوّ»، فكيف بهذه «النسخ» الأقرب إلى «صناعة التقليد الصيني» الذي يتقن «الظاهر» مع غشّ مفضوح على مستوى «القلب». في مقابل «إعلام غباء» لم يكتشف بعد (ولن يكتشف) أنه (في أقصاء حالات الشفقة والرحمة) أشبه بذلك الذي يسير على حمار خلف دون كيشوت، يحارب طواحين ريح، أو هي طواحين غضب اجتماعي، ستعصف بالجمل (التونسي) وما يدّعي حمله من مشروع «ديمقراطي»….