بقلم حاتم التليلي
انتبه يا صاحبي
تدرك جيّدا أنّك تعيش في بلاد منحنيّة الظّهر، ولأنّك مسرحيّ، ومن سمات المسرحيّ الحقيقيّ منذ قدم القديم أنّه لا يحلّ في غير «القرم البدائي»، أو هو قطرة دم في حرارة عرق الخيل تنزل على الأرض فإذا بحمرتها تستحيل وردا، وتلك مفتاح معركة أولى، ينتصر فيها إله الزراعة على دمويّة التاجر.
لأنك مسرحي، عليك أن تعلم أيضا، وأنت تعلم طبعا، أنّك تحيا في عالم لا تسوده غير بيارق القتل وتفاهة هذا النوع البشري الجديد. ولأنّك مسرحيّ مرّة أخرى، يتوجّب عليك التأكّد من انتهاء مهمّات المسرح الآن، انتهت بانتهاء الهنا نحن المسلمين، لقد تمّ قتله هو الاخر، بل والتنكيل بجثّته حتّى أنّ موته صار مضاعفا، لقد تحالفنا نحن المسرحيون جميعا مع أولئك المتحدثين باسمه ثم صافحنا قتلة الإله المسيحي في جفنة مليئة بالدم وأعلنّا موته؛ هكذا انتهينا منه وبشكل مقيت ودنيء، ليحلّ محلّه خصاء العقل، «العقل العاهر» بعبارة صاحب «مولد التراجيديا»، وحلّ بدلا منهما معا عصر آخر، عصر مريع يترّك بأقدام من دوائر يتطاير منها شرار الفولاذ، هو عصر الديجيتال. يا للفضيحة يا صاحبي!
لقد وقعنا جميعا في المكيدة، وليس أمامنا الآن غير الاعلان عن عرس ميتافيزيقيّ نشيّع من خلاله الهنا نحن المسلمين، أمّا نعشه، أو لنقل لحده، فهو المسرح يا صاحبي: هذا الطفل الذي حبلت به أساطير القدامى كي يكون ضدّها النوعي فيما بعد، هذا الطفل الذي نشأ في حضن الآلهة، الآلهة التي تسكننا ـ بعبارة ذلك الفيلسوف الأجمل فيورباخ ـ وأن تسكننا فهذا يعني أنّه يسكننا لا نسكنه.
أن يموت إذن مثله مثل الهنا، فهذا يعني أنّنا متنا من قبلهما سلفا. ويلااااه؛ كيف لنا نحن الموتى، هذه القبور الملقاة على سطح البسيطة، لم ننتبه أبدا إلى صرخاته وهو يحاول الهروب من دمنا قبل أن تحملنا قبور الحياة؟ وإذا كان هذا الموت رمزيا، كيف لم ننتبه إلى كون المسرح الحقيقي هو حياتنا المُمَسْرحة سلفا؟
يا صاحبي ، هل أخبرك جروتفسكي بشيء كهذا؟
أنت الآن تقول لي:
– «لا».
ثمّ تصمت.
نحن الآن في هذه الحياة بلا مسرح وبلا آلهة وبلا معنى، وأرجوك لا تقل لي:
ـ «لنهاجر إلى بيرانديلو يا رفيقي، إنّ شكلا دراميا جديدا هو «الميتامسرح» سيعبّر عن التباس المسرح ومآزقه وربّما محننا نحن أيضا».
إنّ هذا المسرحي لم يتجاوز في أقصاه العلبة الايطالية، أو لنقل من باب الهروب من سلطة الأجهزة المفهوميّة الفضاء المغلق، وهذا سلوك بغيض يكرّس اغتراب المسرح وابتعاده عن الحياة.
الحياة يا صاحبي، ليست هناك، في الهناك لم يعد يوجد غير الكيتش، لم يعد يوجد غير التاجر الذي يسرق ثورة الفلاح، لم يعد يوجد غير السياسيّ الذي استبدل الفعل الثوري بلعبة الشطرنج، ويوجد أيضا بعض الأرذال من المتسلقين ورجال الإعلام المأمورين وجمهور الديجتال وبعض صور المسرحيين الذين قفزوا الى صورهم وناموا في المطلق، هم في حقيقة الأمر عادوا إلى الصلصال، وإن أنت أردت معرفتهم هنا، في بلادنا منحنيّة الظّهر، يمكنك مثلا أن ترى عز الدين قنون و عبد الوهاب الجملي، أما الحبيب المسروقي فلا، أنت لن تراه أبدا، ربّما لم يتفطّن أحد من المسرحيين الانتهازيين الذين يعيشون بيننا إلى «هيئة الحقيقة والكرامة» كي يفشي بسرّه إلى امرأة شاءت لها اللغة أن تسمّى «سهام بن سدرين»، من باب الشماتة في الآخرين لا غير ، كما يحدث الآن مع السياسيين الذين يرفعون صورة محمّد البراهمي وشكري بلعيد في المحافل الانتخابيّة المقيتة.
هم جعلوا من المسرح سلاحا كي يغيّروا العالم، ولكنّه أبعد من ذلك، لماذا نغيّر العالم ونحن قطعة منه؟ أفلا يعني ذلك أنّنا نتنّكر لأنفسنا أوّلا؟
المسرح يا صاحبي منذ أن كان طفلا، كان من رحمنا نحن هذا النوع البشري، لذلك هو معنيّ بالحياة أكثر من العالم، وهذا ما لم يصرّح به علنا آرطو ولا جروتفسكي، لقد كان وجودهما ضميرا إنسانيا يشغّل أنين الإله (مسيحيّا كان أم حتّى اسلاميّا) الذي أعلنّا موته لا غير، في مسلك آخر غير المسرح، كانت ثمّة سيرة الدادائيين والسورياليين: لقد شرّعوا إلى الفضيحة أكثر من أيّ شيء آخر، وآرطو كان من سلالتهم لو تعلم، بلى أنت تعلم.
ـ هل تعرف مصدر ذلك الأنين يا صاحبي؟
إنّه موسيقى الألم في عظام الجسد الهشّ؟
إنّه موسيقى المستقبل القادمة من المطلق كي تعيد تشغيل البراءة في علاقتنا بإلهنا الميّت؟
وهو أيضا موسيقى محافل الدماء التي نراها كل يوم أمامنا في هذا العالم؟
وهو أيضا موسيقى العجز حين نعتقد أنّنا الأفضل على نحت الفكرة فتعوزنا الحاجة؟
قلت لي وللآخرين منذ فترة قصيرة:
ـ «لقد آن أوان عقد ميثاق شرف بين المسرحيين».
يا الهي الميت!!!
كيف أفسّر لك الآن يا صاحبي؟
إنّ هذه اللفظة اللغوية «شرف» تؤرّقني كثيرا، فعلى غرار أنّها مقيتة بامتياز، إذ هي تحيل إلى معادلة أخلاقية لا أكثر، هي مصادرة سلفا من قبل أولئك الكهنة الذين شاركناهم قتل الإله، كيف يا صاحبي يصلح معجم ميتافيزيقي والإله ميّت بطبعه؟؟؟؟
انتبه يا صاحبي الآن إلى ذلك التاجر، إنه المسئول الأوّل عن موت الإله. تذّكر ، يجب أن تتذّكر الآن من جعل ابن الزراعة مضرّجا بالدم ، سيّدنا الأجمل ديونيسيوس، سيقول هذا التاجر وهو ينتحل عبارة الفيلسوف «جيل دولوز» يجب أن نعيد نحت مفهوم لفظة الشرف ونكسبها معنى جديدا يليق بميثاقنا، ولكن لا، لا يلدغ المؤمن من جحر مرّتين بعبارة «قثم بن عبد الله». إنّ ذلك التّاجر يهوديّ السلوك بعبارة «ماركس» في توصيفه للبرجوازي، ولذلك هو الآن يريد استثمار الدم مثلما استثمر اليوناني ديونيسيوس وذوّبه في الديانة الأبولونيّة مثلما كشف عن ذلك السّوري «فراس السواح».
لقد انتصر «قايين» يا صاحبي، الفلاح، على «هابيل» الراعي، ومنذ ذلك الحين تريد سرديات هذا الأخير تشغيل خطاب مظلوميته، وهذا سلوك يهوديّ صرف، فاحذر ، احذر يا صاحبي قتلة الإله، فهو حدّ الآن ما زال يستوطن قلبك.
اذهب عميقا، عميقا جدا نحو أفق شقائق النعمان، فثمّة أنت هنا منذ أن انتقم اليهوديّ، ولا ،لا تبحث عن المسرح فهو الآن في حظيرة التاجر، التاجر الذي يبحث عن تغيير العالم لا الحياة.
لقد هاجر رامبو الشعر، ولم يكترث أثناء جنازته بتفاهة الرثاء الذي تم تشغيلها من أجله.
وأجمل الشعراء الذين انتحروا لم يفعلوا ذلك نتيجة العجز، بل كان يقودهم هاجس البحث عن حرف جديد في الأبجدية كي تكون ثمّة الكلمات التي قد تفصح عن تغيير نظام مجرّات الكون.
ثمّ عليك أن تنتبه الآن، إنّ ذلك التّاجر هو أوّل من سيقدّم نفسه صديقا لك، ولكن ليس الآن، هو فقط ينتظر موتك. يا لوطأة الضحك: إنّه حفيد ذلك المجنون جلجامش، جلجامش الذي سأل عن الخلود ولم يسأل عن الأبديّة !!!
المسرح يا صاحبي أن تصاحب الأبديّة لا سؤال الخلود، المسرح يا صاحبي أن تنظر إلى الموت بصفته الضدّ النّوعي للحياة، أن تنظر إليه بصفته «أتيت من العدم/ ماء السماء، وسترحل إلى الوجود، أن تكون الصلصال عينه، أن تكون في النهاية الماء نفسه».
ثمّ أيضا ما الذي يفعله هؤلاء الذين نراهم كلّ يوم يتحدّثون باسمك: إنّهم الضعفاء يا صاحبي، الضعفاء الذين ارتدوا عباءة المتسوّلين أمام أبواب الوزارات وصناديق الدعم وبورصات المجتمع المدنيّ وغير تلك من الخردة المؤسّساتيّة التي أنتجتها حضارة بشريّة كي تقتل الاله؟
فقط أنت الآن، والمسرح، وموسيقى الألم التي تخز جسدك، وليس ثمّة شيء آخر.
فلا تكن أبدا، لا، عليك أن تحذر، لا تكن أبدا من سلالة الرّاعي «هابيل» اليهوديّ، إنّه كثير الدّهاء، وما يريده من خطاب المظلوميّة سوى اضفاء المشروعيّة على ثأره التاريخيّ.
وما اسمك أيّها المسرحيّ؟
كلّ سجلات المسرح لم تعد تعنيها غير ثقافات البورصات، ثقافة ذلك التاجر وعهره الأخلاقيّ، فابحث عن اسمك بعيدا، بعيدا، بعيدا.
إنّه زمن العرس الميتافيزيقي !!