طالعت بتمعّن شديد وقراءة متأنية البيان الذي صدر عن شخصك وعن مجموعة من الأصدقاء تحت عنوان «الطريق إلى استئناف الديمقراطية»، واخترت عمدا أن أتوجه إلى شخصك دون بقيّة الممضين، والحال أنّ جميعكم لا يستحقّ الاحترام فقط، بل التقدير لما هي نبرة الصدق في المتن، والإكبار لقدرتكم جماعة وفرادى على تحبير مثل هذا «النصّ السياسي» في زمن انقلبت فيه «الأميّة السياسيّة» سبب مفاخرة ومحلّ احتفاء.
أخترتك لسبب شديد الذاتيّة، مع تجديد الاحترام لمن شاركك التفكير والتحبير والامضاء، يكمن في يقين داخلي، أقرب إلى إيمان الأنبياء، بأنّك لحظة الاختيار بين «الصدق» في مفهومه العلمي وبعده الأكاديمي، وكذلك في بعده الأخلاقي (أخلاق القبيلة) مقابل «السياسة» على اعتبارها فنّ «تسجيل النقاط» وأساسًا «تحصيل النصر» و«تحقيق الغلبة»، لاخترتَ دون أدنى تفكير ذلك «البعد الأخلاقي» الكامن في دواخلك، والماكث في قرارك.
ما طالعته، لا يعدو سوى «نصّا سياسيّا»، يستحقّ من أيّ قارئ يملك ذرّة صدق واحدة،ـ ما يلزم ن الاحترام، وكذلك (وهذا الأهمّ) نصّا ينضح صدقا من أصحابه، الذين أرادوا في الآن ذاته، تسجيل موقف يذكره التاريخ بالضرورة، والأكثر والأهمّ، طرح «وثيقة» على الملأ، بإمكانها أن تتطوّر لتكون قاعدة لمشروع سياسي، وأبعد من هذا وذاك، «اصطفاف» إلى جانب ما ترونه حقّا، بالقطع ستذكره لكم (جميعًا) الأجيال القادمة.
لكن المشكل والإشكال، أنّني لم أطالع سوى «نصّا سياسيّا» مفعمًا بنوايا صادقة وأهداف نبيلة… لا غير…
كنت أرجو منكم (جماعة) ومنك (مفردًا) نصوصا، أرقى من السياسة (في بعدها الجدلي) وأعمق من «تسجيل موقف» مخافة الغياب عند المحطّات الكبرى، بل (وهنا المشكل) وجدت ذاتي قبالة نصّ يجترّ ذات المعاني ويتوسّل ذات الدلالات، ويعتمد ذات الاسقاط، ويخلص إلى القناعات ذاتها، التي طالعها العامّة والخاصّة، على كتابات (شخصك) وكتاباتكم (جماعة)…
غاب (وهنا الدافع وراء هذه الرسالة) ذلك العمق «أنثروبولوجي»، خاصّة وأنّ الإجماع قائم أو هو التوافق في أوسع أبعاده أنّك (في بعدك الشخصي) لا تقلّ قدرة على التحليل وطاقة على الاستخلاص عن «أنطونيو غرامشي» الذي (وهنا ميزته) أنّه حافظ طوال حياته على مسافة، فصلته أو بالأحرى ترّفع بها وعلا من خلالها على «جمهرة السياسيين» الذي كان يعيب عليهم (أو أغلبهم) أنّهم «مجرّد فعل مادّي»، يفتقر إلى الركن الثقافي القادر على التحليل العميق في أحلك اللحظات….
مصيبتك أيّها الأمين أنّك ازلقت إلى ساحة حرب دون أن ترتدي الدرع الواقي من فيروس السياسة، التي صارت تعتمد منطق كرة القدم، أيّ «النصر بأيّ نتيجة»، وكذلك «لا تهمّ جماليّة اللعب أمام تحصيل النصر»…
منطق التهمك وعركها وجعلك وظيفيا رغما عن طيب نواياك، مجرّد قلم، ضمن مساحة ركض لا تملك قدرة تحديد، لا موقعها ولا مساحتها، ودليل ذلك أنّ الأفراد (أمثالك) المتورطين، جميعهم دون استثناء من «رُعاع السياسة» هم من غير «المبشرين بالمناصب»، على خلاف «الكائنات الحزبيّة» التي تترفّع عن حرق أشرعتها لأنّها تعلم يقينًا أنّ يوم «الصُلح» مع قيس سعيّد قادم لا لُبس فيه، والحال أنّ بينها من «الأقلام» من هو قادر على تحبير مثلما تُحبّرون.
جعلوك أسير لبّانة «الشرعية» (في المطلق) مقابل رجس «الانقلاب»، وأنت تعلم من منطلق أنثروبولوجي بحت، ليس فقط سطحيّة هذا التقابل، بل وهنا جريمتهم (عن إصرار وامعان) وجريمتك (عن حسن نيّة) أنّهم لا يرمون سوى التغطية على الجرائم التي ارتكبها ساسة «جرحى الانقلاب» التي لولاها لما كان «الانقلاب» من أساسه.
أيّها الأمين،
أوّل «الجريمة» أن قالوا لك، أنّ «استرجاع الشرعيّة» هي أمّ المعارك، التي لا يعلو فوق صوتها صوت معركة أخرى، والحال أنّهم يعملون على جبهتين : الأولى، التعمية على جرائم «ما قبل25 جويلية» والثانية، تصفية الحساب داخل صفوفهم من باب الاستعداد للحظة الصفر، التي يرقبون.
ليس المطلوب منك أن تتحوّل إلى قاض أو جلاد أو «بوليس سياسي» في مواجهة «جرحى 25 جويلية»، بل فقط أن تسأل بصوت عال ومسموع عن الأسباب التي جعلتهم يفشلون في تأسيس «شرعيّة» تملك حصانة ضدّ الانقلابات، وليس قطيعًا يمارس اللطم راهنًا ويعوّل على الأقلام من «طيبي القلب» أمثالك، ليعودا عبرهم إلى سدّة الحكم أو أيّ مساحة منها.
كان الأولى بك أن تطرح أسئلة عن علاقة فشلهم بما هو التراجع/الفشل الذي تعيشه الليبراليّة الغربيّة، في المُطلق ؟
هل أنّ الفشل الذريع لهذه «الليبراليّة» يكمن (ضمن نسختها التونسيّة) في الاكتفاء بما يقولون أنّها «الشرعيّة»، دون القدرة أو هو الوعي بأولويّة التأسيس لمنوال تنمية جديد؟
السؤال الأهمّ : من المشروع الإيمان أنّ «من صعد بالصندوق يسقط بالصندوق»، وأنّ الديمقراطيّة تحوز من الأدوات (أيّ الانتخابات) ما يجعلها تُصلح ذاتها دون حاجة إلى «انقلاب» مثلا، فهل تبقى هذه «البراديغمات» صالحة، والحال أنّ «الديمقراطيّة» (في نسختها التونسيّة) هي بين رفض وعجز عن مقاومة الفساد في مجال الاقتصاد أو الاعلام؟
أيّها الأمين…
ما الذي جعل «الانقلاب» شبيه بما هو «الكوليسترول» منه الخبيث كما المحمود أو هو المطلوب، حين خرجت طائفة من التونسيين ليلة 25 جويلية 2021، يرحبون بسقوط «شرعيكم» ونجاح «انقلابهم»، علمًا أنّ الجزء الأكبر منهم خرج صدقا ولم يكن مأجورًا…
ختامًا أرجو أن يستفيق فيك «غرامشي» عوض «عنترة» الذي أجّر سيفه مقابل وعد بزواج لم يتمّ…
أنتظر نصّا منك…