منذ النكبة ومن بعدها النكسة وما تلى من انكسارات أمام الصهاينة، أسّس النظام العربي الرسمي بل رسّخ وأقام «الحجج والبراهين» على أنّ «الديمقراطيّة» لا تعدو أن تكون سوى «باب تفرقة»، ووجه من وجه تمزيق القوى، بل فتح المجال أما «الغرب» سواء كان كافرا أو امبرياليا، ليفسد علينا استقرارنا أو هو «النضال من أجل فلسطين»…
لذلك حملت مفردات «الديمقراطيّة» وكذلك «الحريّة» وأساسًا «حقوق الانسان» أو هي أحالت على «الشبهة» وكذلك «الشكّ»، ممّا يستطيع الغرب الكافر/الامبريالي فعله في دواخلنا. لذلك جاءت جميع حالات الانفتاح على هذه «المفردات» من باب «المكره على الباطل»، حين لم تتأصّل هذه القيم ولم ترق بعد إلى مستوى القناعات الشاملة للجميع، سواء لريبة تركب الحكام أو استعداد جزء غير هيّن من المعارضات لبيع «الجمل بما حمل» للدوائر الغربيّة من باب الرغبة في الانتقام أو الوصول إلى السلطة بأيّ ثمن كان.
على نقيض من ذلك، استطاع الصهاينة منذ وضع اللبنات الأولى لمشروع كيانهم أن يجزموا بأمرين:
أوّلا: هو مشروع استيطاني توسّعي، ومن ثمّة يعتمد الوسائل العسكريّة لتحقيق المطلوب، وبالتالي تأتي «المؤسسّة العسكريّة» فوق كلّ اعتبار.
ثانيا: شكل النظام «ديمقراطي» برلماني، يمكّن أي ائتلاف من الوصول إلى السلطة.
من الأكيد أنّها «ديمقراطيّة لصوص ومجرمين»، حين يدخل رئيس الوزراء السجن من أجل رشوة، ولا يفكّر أحد في محاسبته لمسؤوليته عن قتل مئات بل آلاف الأبرياء في داخل فلسطين وفي لبنان، بل يعتبرون الأمر ممّا يذكرون للرجل وممّا يزّين مساره…
في اختلاف مع التجارب العربيّة وكذلك في تواصل معها، لا يزال «الخوف» يركب الحكم في إيران من جزء من أفراده/مواطنيه، وإن شكّلت تجربة الحكم هناك أنموذجا فريدًا منذ سقوط نظام الشاه، لأمرين:
أوّلا: قوّة الثورة والزخم الذي صاحبها، بل المد الذي أحدثته، إن لم نقل الزلزال، في العالمين العربي والاسلامي على حدّ السواء..
ثانيا: تركيبة السلطة القائمة على «سلطة علماء الدين» ومن ثمّة ترسيخ «ولاية الفقيه» أساسًا لجمهوريّة تعتمد نظامًا فريدًا من نوعه، يقوم على علويّة «المرشد الأعلى» ومن تحته تقوم «جمهوريّة» (شبه) عاديّة.
هذان العنصرنان، شكّلا قاعدة الدولة في إيران، لكنّ الدولة والنظام هناك، يملكان خوفًا قاتلا، بل هوسا من «الآخر».خوف مشروع وهوس مباح، حين تعرّض المشروع/الدولة للحصار والضرب المعلن وتحت الحزام، ممّا أدّى إلى تأسيس منظومة «مجتمع» قائم على «الانغلاق» وكذلك على «الريبة» من كلّ ما يمكن أن يأتي من «خارج الحدود»…
لسائل أن يسأل من باب طلب العلم والحصول على المعرفة: لماذا «المجتمع الصهيوني» [المقصود الفرد قبل المجموعة] محصّن ضدّ كلّ محاولة ضرب «المشروع» (من الداخل)، في حين أنّ الدول الحاملة لمشروع «المقاومة» تحمل هوسًا دائمًا، يبلغ حدّ الشكّ في الفرد/المواطن. حين حمل السلاح جزء من السوريين ضدّ نظام بلدهم، في حين خرج إلى الشوارع «إيرانيون» [مهما يكن العدد] من باب نفي لمشروع الدولة/الثورة.
أمران يتأسّس عليهما مشروع الدولة المستقرّة ويقوم على أساسهما النظام السليم:
أوّلا: مفهوم الانسان/الفرد/المواطن في علاقته بذاته وفي علاقة بالدولة/النظام، وما بينهما وما هو رابط مع الأخرين من «عقد اجتماعي»
ثانيا: مفهوم الدولة/النظام القادر على التأسيس لدولة الحقوق والواجبات، دولة الحريات وحقوق الانسان، وفي الآن ذاته تكون دولة «مقاومة» ودولة «نصرة المستضعفين»..
هذه الأسئلة لا تزال مطروحة في إيران، رغم ما حقّقت الدولة من انجازات هامّة على مستوى «البناء المادي» للمشروع، وما أسّست له من «تراث سياسي» يزاوج «ولاية الفقيه» بما هي «الدولة العصريّة»… بل يمكن الجزم أنّ الرهان الأهمّ المطروح أمام الدولة/النظام هناك، يكمن في الآن ذاته في صناعة صواريخ أفضل وتطوير برامجها التسليحيّة، وكذلك في طرح أسئلة تخصّ «فلسفة الحكم» بعيدًا عن الاكتفاء بما هو «التخوين»، حين يؤدّي الطرح الخاطئ لهذه الأسئلة ومن ثمّة الإجابات العقيمة، إلى ثبوت هذه «الحالات السرطانيّة» في مكانها أو ـ كما كان حال الاتحاد السوفيتي ـ استطاعت أن تسقط الدولة وتقلب النظام.
لا يتعلّق الأمر بالحديث عن نبوءات بمسار الثورة ومصير الدولة، بقدر ما هو طرح أسئلة حارقة وتقديم حالات تشخيص لا يمكن انكارها، والتي يمكن تلخيصها بسؤال واحد أوحد: لماذا هذا العجز أو هو التخبط أو ربّما الفشل (حين نتحدّث عن إيران والتجارب العربيّة) في إنجاز دولة تملك أمنا قويّا وجيشا صلبا وكذلك تقوم على ديمقراطيّة حقّة تعطي للفرد/المواطن حقّه كما تنجز المسار الحضاري الذي تنخرط فيه؟
جزء غير هيّن من الماسكين للقرار في الدول العربيّة وإيران، كما تركية كذلك، من أنصار التمترس وراء «نظريّة المؤامرة» القائمة على تقديس الذات مقابل شيطنة الآخر (مهما يكن)، دون طرح السؤال الأهمّ، أو بالأحرى قلب السؤال في الاتجاه المعاكس: ما الذي يجعل الدول الكافرة/الامبرياليّة التي تقود «مؤامراتها» ضدّ هذه الدولة أو تلك، تكون منيعة أمام حالات «التآمر» علينا «من قبلنا» (في حال استطعنا فعل ذلك حقّا)؟؟؟