للذين لا يدركون ولا يعلمون، يتمّ عند تحديد زيارة أيّ زعيم دولة إلى دولة أخرى، إعداد الزيارة بتفاصيلها الدقيقة، ويحاول كلّ طرف أن يكسب على مستوى الرمزيّة، أوّلا عند تصنيف الزيارة، وصولاً إلى التفاصيل وحتّى الأمور الدقيقة كمثل طول الكلمات أثناء العشاء الرسمي، أو حتّى نوعيّة الألبسة المسموح بها في مثل هذه المناسبات.
من ذلك يدرس الخبراء هذه الزيارات على أنّها التعبير الحقيقي عن موازين القوى بين الدولتين وكيف استطاعت هذه أن تلزم الأخرى بأمر أو أن تتفادى الأخرى الأمر. مثلا رفض خالد الذكر الرئيس الجزائري هواري بومدين زيارة فرنسا، بسبب (ضمن الأسباب) زيارة قبر «الجندي المجهول»، حين يعتبر بومدين أنّ هذا «الجندي» (المجهول) يرمز إلى الجنود الفرنسيين الذين مارسوا أشدّ عمليات الإبادة في الجزائر، أو (والرأي لبومدين) قد يكون أحد الخونة الجزائريين أو العرب الذين باعوا أوطانهم من أجل فرنسا…
كذلك قبل بن علي أثناء أخر زيارة له للولايات المتّحدة أن يؤدّي زيارة إلى مقرّ وزير الخارجيّة (حينها) كولين باول، في حين أنّ الأصول الدبلوماسيّة تنصّ على أنّ رئيس الدولة هو من يستقبل وزير الخارجيّة في مقرّ إقامته، علمًا وأنّ كولين باول أشار في كلمته إلى أنّه «من استدعى بن علي»… إذلال وإمعان في إعلان ذلك للإعلام….
انتشر في الأيّام الفارطة خبر زيارة الرئيس الروحاني إلى إيطاليا وكيف قبلت الدولة الايطالية بطلب الجهة الإيرانيّة تغطية التماثيل العارية (في أحد المتاحف) لأنّ ذلك لا يروق للجانب الإيراني.
في تجاوز للجوانب التحليليّة لمفهوم الجمال والفنّ أو حتّى توظيف الجسد (العاري) ضمن حضارة الغرب وثقافته وخاصّة فنونه الفرجويّة (الرسم والنحت والمسرح والسينما)، يمكن الجزم أنّ مجرّد قبول الجانب الإيطالي بهذا الشرط، يعدّ تراجعًا عن «ثوابت» (داخليّة) من أجل «مصالح» (خارجيّة)… بمعنى أنّ الطرف الإيطالي يعترف (من خلال هذا الفعل) أنّه في حاجة للجانب الإيراني، أكثر من حاجة الإيرانيين للزيارة ولإيطاليا ذاتها…
إنّه صراع قناعات ومواجهة بين مفاهيم قد تأتي متناقضة أو حتّى نافية لبعضها البعض، حين تتحوّل هذه الأمور «الشكليّة» (جدّا) (أحيانًا) إلى «أمّهات المعارك»، التي تختزل القضايا السياسيّة الكبرى.
إنّها المعارك السياسيّة بوسائل أخرى أو تتمّة لها في ميادين الأعراف والدبلوماسيّة وشروط الزيارات، لتحاول كلّ دولة (مهما كانت) أن تنجز نصرًا وتتفادى الهزائم….
الرفض الإيراني والإذعان الإيطالي جاب العالم وتحوّل إلى حديث الوكالات وما يشغل الصحف وتتحدّث عنه القنوات التلفزيونيّة. يعلم الإيرانيون تأثير ذلك وكذلك يدري الإيطاليون أنّهم يخسرون على مستوى «الهيبة»!!!!
ما الذي يدفع الإيطاليون إلى تحمّل مثل هذه «الخسارة» (الرمزيّة)؟؟؟؟
تعلم إيطاليا أن إيران التي غادرت «سجن العقوبات الدوليّة» تحمل شهيّة استثمارات ضخمة خاصّة وأنّها حصلت على مائة مليار دولا ممّا كان محتجزًا في بنوك غربيّة بحكم العقوبات، ومن ثمّة تأتي السوق الإيرانيّة
أوّلا: واعدة جدّا على مستوى الاستثمارات التي تخصّصها طهران لتطوير الاقتصاد
ثانيا: حجم المنافسة الدوليّة والغربيّة خاصّة للفوز بأهمّ العقود الواعدة
الركود الاقتصادي (المتفاوت) في أوروبا يدفع هذه الدول والشركات الكبرى خاصّة إلى السعي للفوز بالعقود الإيرانيّة وكذلك دخول هذه السوق الواعدة، سواء بطاقة استهلاكيّة ضخمة أو حاجة الدولة والشعب إلى اللحاق بالمستويات العالميّة على مستوى الاستهلاك.
وجب التذكير أنّ الجولة الأخيرة من المفاوضات من أجل رفع العقوبات لا تزال جارية حينها، وقد بدأت الدول الأوروبيّة في استباق النتائج وارسال الوفود إلى طهران لعرض الخدمات والبحث عن الأسواق الثمينة قبل الأخرين.
«إنّها أشبه بترك ساحة الوغى قبل نهاية الحرب»، هكذا كان رأي الطرف الأمريكي بخصوص هذه «الهرولة»…
حرب الإشارات بين إيران والولايات المتّحدة تمرّ حتمًا عبر العواصم الأوروبيّة، التي (قد) تعادي إيران من موقع استراتيجي، لكنّها في هذا الظرف الاقتصادي الشديد، أميل إلى مصالحها «الاقتصاديّة» (خاصّة) حين لن تتوانى الدول الأخرى عن فعل أيّ شيء من أجل الفوز بهذه الصفقة أو تلك…
الطرف الإيراني يريد أو هو أرسل بهذا «الخضوع/الخنوع» الإيطالي رسالة واضحة إلى دول الجوار وخاصّة السعوديّة، بأنّ زمن «الحصار (قد) ولّى» وأنّ إيران عائدة إلى الساحة الدوليّة من الباب الأوسع للعب دورًا (وهنا الخطورة) أقوى من ذي قبل….
إيران المتورطة حدّ النخاع في الملفّ السوري، تبحث عن تسويق نفسها في صورة «الدولة المقبولة» وربّما (وهذا ما تريده) أن تكون «الدولة التي تمرّ عبرها حلول المنطقة» بدءا بالملفّ السوري النازف منذ سنوات، مرورًا بلبنان ونهاية باليمن دون إغفال العراق وأفغانستان…
تركيا (الدولة الاسلاميّة الأقرب إلى الغرب) معنيّة بهذه الرسالة مثل دول المنطقة جميعًا، حين يرى حكّام أنقرة أنّهم الأقدر على لعب دور الوسيط أو الرابط أو الجسر بين الشرق والغرب، لتخرج إيران من قمقم سنوات الحصار الذي استفادت منه تركيا كثيرًا
كذلك لا يفُوت إيران أنّ «الرضوخ» الإيطالي لن يكون «مجانيّا»، وعليها أن تدفع «ثمنًا» (اقتصاديّا) لهذه «الحركة» (الرمزيّة)، ومن ثمّة لا يمكن أن يترك الإيطاليون روحاني يغادر البلاد قبل أن يكون أحد وزرائه قد أمضى ما يجب امضاؤه، جبرًا لخاطر إيطاليا التي طالما ما تباهت بتراثها المجيد وتماثيلها (العاريّة) الجميلة… جمال لا يروق للإيرانيين حتمًا..
OBLIVION – THE BLACK HOLE – NEW 2016…..!