لا أحد يتخيّل أنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد يكون قام بفتح زجاجة شمبانيا بمجرّد سماعه توقيع اتفاقية الشراكة الإستراتيجية بين كلّ من تونس والاتحاد الأوروبي، أو أبدى فرحًا بسيطا، لعلمه أو بالأحرى يقينه أنّ ما تمّ الاتّفاق عليه، يخدم في المقام الأوّل دولة إيطاليا (الشريك اللدود) وثانيا يسحب من فرنسا أو بالأحرى يضيّق من مساحة نفوذها في زمن لم يسبق أن تراجع مدى هذه الدولة مثلما هو الحال راهنًا.
التفاوت قائم ومشروع بخصوص درجات قراءة هذه «النُقلة» (بمفهوم الشطرنج) وتأثيرها على التوازنات القائمة والقادمة، لكنّ الأكيد وما لا يقبل الجدل أنّ «النُقلة» المقابلة (بمفهوم الشطرنج دائمًا) لن تكون بإعلان «النفير العامّ» والهجوم على تونس من أجل (إعادة) توقيع (ما يشبه) «اتفاقيّة باردو» ومن بعدها «اتفاقية المرسى» مع الجانب التونسي، لتفهم «إيطاليا» (الفاشيّة حينها كما هو الحال) أنّ عليها سحب تونس من سجلّ «أطماعها»…
الأكيد وما لا يقبل الجدل استحالة (في الوقت الراهن كما في المستقبل القريب) الرهان من أيّ جهة كانت، على أنّ يتجاوز الصراع داخل «العائلة الأوروبيّة» البُعد التكتيكي المخض، ومن ثمّة لا يمكن لأيّ جهة تونسيّة وضعت جميع بيضاته في «السلّة الفرنسيّة» أن تتخيّل أنّ باريس ستفكّر مجرّد التفكير (دائمًا في الوقت الحاضر وفي المستقبل المنظور) في إراقة الدماء على جوانب شرفها الرفيع (وشرفهم كذلك) ليسلم من الأذى، حين اليقين قائم أنّ اتفاقية الشراكة الإستراتيجية(هذه) تمثّل اعترافًا صريحًا وتسليمًا لا تشوبه شائبة بما يرى الطرف الماشي في ركاب فرنسا والمعادي لقيس سعيّد أنّه «انقلاب على الشرعيّة القائمة قبل تفعيل الفصل 80».
أصرّت إيطاليا إصرارًا وألحّت إلحاحًا على وجود «طرف أوروبي» رفيع المستوى منذ اللحظة الأولى، ليقينها أنّ الغطاء «الأوروبي» ينزع عن أيّ «اتفاقيّة» بعدها «الثنائي» لتلزم بها أوروبا بكاملها.
كذلك جاء الوجود الهولندي ليطمئن «القلب الإيطالي» أنّ دول الشمال الأوروبي، الأغنى والأشدّ تأثيرا في السياسة الأوروبيّة (على رأسها ألمانيا) ليست معنيّة فقط باتّفاقيّة الشراكة الإستراتيجية، بحكم وجودها داخل الإتحاد الأوروبي، أسوة ببقيّة الدول بل هي جزء مباشر من هذا الاتفاق.
بقطع النظر عن محتوى الاتفاق وما جاء فيه من بنود، يمكن الجزم أنّه يمثّل اعترافا صريحا وعلنيا ومباشرا وغير منقوص بمجمل «الشرعيّة» التي تأسّست بعد تفعيل الفصل 80. من الأكيد وما لا يقبل الجدل أنّ ملفّ «شرعيّة» نظام ما بعد 25 جويلية، لم يغلق ولم يُطْوً بمجرّد امضاء الاتفاقيّة، لكن لا يمكن نكران أنّ قيس سعيّد كسب نقاط ثمينة، ومن ثمّة تأكّد بما لا يقبل النقاش أنّ «خرافة الديمقراطيّة وحقوق الإنسان» لا تعدو أن تكون سو «العصا/الجزرة» التي تلوّح بها جميع الأطراف الغربيّة بغية وضع أنظمة «الدول غير الديمقراطيّة» (وفق نظرتها) في المسار الذي تريده هذه الأطراف، حين أثبت التاريخ أنّ دول عديدة انتقلت، في رمش العين، ضمن سلّم «الديمقراطيّة وحقوق الانسان» من النقيض إلى النقيض، فقط لمجرّد أنّها اتخذت موفًا مساندًا/معارضًا لموقف هذا الطرف الغربي أو ذاك.
هي لعبة أشبه بأسطورة «سيزيف». دولة مثل تونس لم تنل «شهادة حسن سيرة وسلوك» مطلقة من قبل أيّ طرف غربي، سوى للحظات بسيطة، أيّ بُعيد تاريخ 14 جانفي 2011، من باب مجاراة النسق العام فقط لا غير.
هل أخطأ راشد الغنوّشي عندما اعتبر فرنسا والولايات المتحدة الأمريكيّة من «أمهات الديمقراطيّة»؟
هل أخطأ محمّد نجيب الشابي عندما اعتبر أنّ «الممارسة السياسيّة» لدولة فرنسا في تونس لا تمثّل «تدخلا في الشأن الداخلي»، بل «دعما للديمقراطيّة»؟
هل أخطأت حركة النهضة عندما أصدرت «منزوع الدسم» (السياسي) عمّا جدّ في «مخيّم جنين» حين رفض البيان أو هو أغفل التأكيد على الحقّ الفلسطيني في الكفاح المسلّح، واكتفى باعتبار من تعرّضوا للهجوم الصهيوني في المخيّم «كائنات حيّة» (أسوة بحيوان البندا) تستحقّ الوجود؟
عندما نتقيّد بما هي ماكيافيلية الممارسة السياسية، وننزع دون أيّ قراءة «أخلاقيّة/وطنيّة» يكون الجواب قطعًا سلبيا، حين لم تؤتِ هذه التنازلات أكلا، بل كانت عديمة النفع أو هي ذات مفعول مجاني أو هو عكسي، حين لم يكن أحد منهم (من المفترض) يتخيّل أن يرتدي إيمانويل ماكرون «حوامًا ناسفًا» والقيام بعمليّة استشهاديّة/انتحاريّة ضدّ ألدّ أعداء «النهضة».
كذلك يرتكب قيس سعيّد خطأ كبيرًا في حال اعتبر أنّ اتفاقيّة الشراكة الاستراتيجية في صورة «فرمان» دون سقف زمني؟؟؟