من الممكن أو هو بالأحرى هو اليقين، لا يمثّل «الإخــــوان المســــلمون» الطرف الأشدّ «تطــــــرّفًا» داخل الطيف الإســـــلامي على مستوى معاداة فرنــــسا والغـــــرب عمُومًا، بل الدلائل قائمة أنّ «خيار الديمقراطيّة، كلّ الديمقراطيّة ولا شيء غير الديمقراطيّة» صار لدى الطيف الإخـــــواني، «عقيدة راسخة» جعلها عدد كبير من منظّريه يعتبرون الأمر «خيارًا استراتيجيا لا رجعة فيه ولا تراجع عنه»، ليكون السؤال الذي يطرح ذاته في إلحاح شديد، عن أسباب «الهجمة» التي تشنّها الدولة الفرنسيّة وجزء غير هيّن من إعلامها على تنظيم «الإخــــــوان المســــــلمين»، في عنف غير معتاد على فصيل إســــــلامي بعينه، حين كانت فرنسا «الرسميّة» تعتبر «السلــــفيين/الجهـــاديين» الخطر «الإســــلامي» الأشدّ على فرنسا، التي (أسوة ببقيّة الدول الغربيّة) التي وقفت إلى جانب الإخــــــوان في الصفّ المعادي للنظام الســـــوري السابق، وكذلك لم تعاديهم في باقي البُلدان العربيّة، حين اعتبر زعيم حركة النهـــــضة في تونس راشـــــــد الغنّـوشي في حوار مع «قناة الزيتونة» (التابعة لأحد أعضاء الحركة) أنّ «فرنسا والولايات المتحدة الأميركيّة من أمّهات الحريّة»، في حين اعتبر أحمد نجيب الشابّي القيادي في جبهة الخلاص (التنظيم الذي تمثّل النهـــــضة عمودها الفقري) أنّ «(تصرّفات) فرنسا في تونس لا تمثّل تدخلا في الشأن الداخلي بل هي من الداعمين الأوائل للديمقراطيّة»…
ما سبب هذا «الانقلاب»؟
هل جاء نتيجة «إعادة قراءة للواقع الإســــلامي» سواء في فرنسا أو خارجها، أم أملته «عوامل طارئة» يمليها الواقع الفرنسي الحالي، الذي تطغى عليه المزايدات على مستوى الخطاب المعادي «للخطر الإســـــلامي»…
«بعد سنوات من المراقبة والمعالجة الهادئة، تعلن الدولة [الفرنسيّة] الحرب على حركة الإخـــــــوان المســــــلمين التي ازدهرت في البلاد دون أن تثير منذ أكثر من خمسين عامًا أيّ ضجة. خطة المعركة تنقسم إلى شقين. أولاً، ستتم مواجهة الفرنسيين بنشر تقرير، كشفت صحيفة «لوفيغارو» الصادرة بتاريخ 21 ماي 2025 عن محتواه، يُقدّم سرداً مذهلاً لأنشطة الإخـــوان المســـلمين. وتسلط هذه الوثيقة، التي تمّ تسليمها إلى الحكومة في خريف عام 2024، بعد خطاب إيمانويل ماكرون في لي مورو Les Mureaux [عن «الانفصاليين»، والمقصود من فصلوا أنفسهم عن المشروع المجتمعي في فرنسا]، ومقتل صامويل باتي Samuel Paty في خريف عام 2020، الضوء بقسوة على صعود هذا التنظيم الذي يبرع في إخفاء نواياه ومضايقة خصومه من أجل إقامة دولة إسلامية في فرنسا».
هذه هي الفقرة الأولى من ملف نشرته يوميّة «لوفيغارو» اليمينيّة استنادًا إلى التقرير، التي راج على الانترنت.
من الأكيد وما لا يقبل الجدل أنّ شخصيّة وزير الداخليّة الحالي، والخطاب الصدامي الذي اعتمده منذ اليوم الأوّل، سرّعت – في أدنى الحالات – الأحداث، وجعل فرنسا (الدولة والإعلام) يعتمد خطابًا «أكثر تطرّفًا»، بل يمكن الجزم كما لاحظ ذلك عدد من الملاحظين أنّ وزير الداخليّة الحالي، وهو ينتمي (ظاهرًا) إلى «اليمين الجمهوري»، يتبنّى خطاب اليمين المتطرّف جهرًا وعلانيّة، من باب «سحب البساط» من تحت أرجلي «الجبهة الوطنيّة» التي لم تعد تحتكر (هذا) «الخطاب المتطرّف. الشيء الذي مكّن (هذا) الوزير من كسب الصراع مع «غريمه» رئيس الكتلة النيابيّة لحزب «الجمهوريون» بفارق عريض جدّا… نجاح أرجعه المراقبون إلى «الصرامة» التي أبداها هذا السياسي الذي لا ينفي أحلامه برئاسة فرنسا.
رغم اعتراف التقرير منذ البدء بأنّه اعتمد النظر إلى الموضوع زاويتين. الأولى متفهمة لهذه الجماعة في فرنسا، على اعتبار «أنّها غادرت فلك الإخوان المسلمين، وتطور أعضاؤها على أساس فردي، وتكيفوا مع السياق الحالي [في فرنسا]. كما أنّهم اندمجوا في الحياة الاجتماعية والسياسية في الدول الديمقراطية، كذلك أظهروا مرونة في تطبيق المبادئ الثانوية»، في حين جاءت الثانية متشائمة على اعتبار أنّ «اندماج الإخـــــوان المسلــــمين ومشاركتهم في حياة المجتمع الغربي، والخطاب المعتدل الذي يستخدمونه، ما هو إلا تعبير عن انسحاب تكتيكي: فالدولة الإســــلامية تبقى هدفهم النهائي، مع وجود حركة منظمة وعمودية وسرية تعمل من أجل تحقيق هذه الغاية»، إلاّ أنّ التقرير أصرّ على «صبر الجماعة» واعتمادها السريّة في اختراق مجمل النسيج الاجتماعي في فرنسا…
كما أكّد التقرير على «عدم ثقة المســــلمين في فرنسا بالدولة»، على اعتبارها «معادية للإسلام» في أساسها، كما أنّها «تعاديهم لمرجّد أنّهم يدينون بالإســــلام»…
هل ستكتفي فرنسا بمجرّد التشخيص، أي إعداد التقارير؟
تطرح «لوفيغارو» هذا السؤال وتقدّم الإجابة: «إن الدولة تريد أن تشن هجومًا على [جماعة الإخــــوان في فرنسا] التي تهدف إلى الاستثمار في البنى التحتية للجمهورية من أجل تحويرها من الداخل» (…) سيرأس إيمانويل ماكرون اجتماع المجلس الأعلى للدفاع الوطني يوم الأربعاء المقبل في قصر الإليزيه، يحضره رئيس الوزراء ووزير الداخلية الذي يعتبر محورياً في الخطة لأنه المسؤول عن الشؤون الأمنية والدينية، بحضور نظرائه من الخارجية والتربية الوطنية والرياضة والاقتصاد».
لا أحد يصدّق أنّ ردود فعل السلطة كانت ترتقب الافراج عن التقرير وما صاحبه من ضجّة إعلاميّة… فقط وحصرًا هو استغلال لحملة إعلاميّة ضخمة ومركزة، مستمرة دون انقطاع منذ وصول وزير الداخليّة الحالي إلى منصبه، حين تلبّست السلطة التنفيذية ذاتها خطاب أقصى اليمين وصارت تعتمده في صورة أحد أهمّ محركات الفعل السياسي في فرنسا.
تضيف ذات الصحيفة «في نهاية هذا الاجتماع لمجلس الإليزيه، ستقرر السلطة التنفيذية سلسلة من الإجراءات، سيتم الإعلان عن بعضها، في حين سيبقى البعض الآخر طيّ السرية». ثمّ تسوق نقلا عن قصر الإليزي [رئاسة الجمهوريّة]: « ينبغي اتخاذ تدابير لضمان أن يكون الخطاب الجمهوري المضاد أكثر نشاطاً على شبكات التواصل الاجتماعي، في مواجهة الاختراق الذي حققه الإســلام الراديكالي في أذهان الناس، لا سيما في أوساط الشباب»، وتضيف وفق ذات المصدر: «ستُطرح مسألة التمويل الأجنبي من أجل تعزيز الضوابط وضرب جماعة الإخــــوان المســــلمين في مقتل (…) بتكثيف الرقابة على أموال الأوقاف التي تدعم الحركة، ومنع الجمعيات المستهدفة من نقل ممتلكاتها وأصولها إلى الخارج قبل حلها»…
وفق التقرير «الحرب المستمرة في غزة في أعقاب الهجوم الإرهـــــابي في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، على الرغم من أنها لم تكن موضوع العديد من المظاهرات أو التصريحات العلنية للقادة المســــلمين مقارنةً بالحرب السابقة في يوليو/تموز 2014، إلا أنها تشغل بال الجميع. وقد تم التعبير في جميع المقابلات تقريبًا عن الانتقادات الشديدة الموجهة للسلطات الإسرائيلية وعتاب ”ازدواجية المعايير“ الموجه للسياسة الفرنسية».
هناك سعي في الآن ذاته للتقليل من أهميّة ما جدّ في غزّة، وسعي أكبر لتجريم أيّ تعاطف مع المتعاطفين مع هذه القضيّة…
هل «الاهتمام» سيشمل «الإخوان» فقط؟؟؟
رغم أنّ التقرير وما سبقه ويصحبه وسيليه من «قصف إعلامي» يقتصر على «الإخـــــوان المســـــلمين»، إلاّ أنّ «النيران الصديقة» ستشمل العديد من ألوان الطيف الإسلامي في فرنسا، مع التأكيد على نقطتين أساسيتين:
أوّلا: لا أحد ضمن النخبة الفرنسيّة الماسكة للقرار السياسي/الأمني يرى ويعتبر أنّ الإخـــوان يمثلون «الشرّ المطلق» على عكس بقية الطيف الإسلامي. في النهاية، تسمية «الإخـــوان المســــلمين» لا يتجاوز دورها حدّ التسويق الإعلامي كما السياسي.
ثانيا: لعبت فرنسا وستبقى تراهن على الخلافات القائمة داخل الطيف الإسلامي، بحسب بلدان المصدر، أو بحسب التعارض بين العرب وغير العرب، وحتّى بحسب المذهب من سنّة وشيعة…