من «حاكميّة» السيّد قطب، والإصرار على «التمكين في الأرض»، في أقرب فرصة ممكنة، وهو ما حاولت تطبيقه، بقوّة الحديد والنار جميع التنظيمات الجهاديّة التي انشقت عن «الجماعة»، انتقل تنظيم «الإخوان المسلمين» في مصر زمن مأمون الهضيبي وعمر التلمساني إلى ذلك السعي المحموم الذي لم ينقطع إلى يوم الناس هذا، للمرور بين قطرات المطر دون بلل، بمعنى مجاراة الموجات العاتية مهما كانت، والانتقال من ضرورة «التمكين بالجملة» إلى تحصيله من خلال «التقسيط»، أي مراكمة المكاسب «قطرة قطرة».
تأسّست حينها ما يمكن أن نطلق عليها تسمية «الواقعيّة الاخوانيّة» التي حاولت دائمًا ولا تزال تسعى دون هوادة تحو غايتين متلازمتين :
أوّلا : استغلال أقصى ما يُمكن من «المجال» المتاح أمام «الإخوان» في أيّ بلد كان، والعمل من خلاله على ترسيخ الذات عموديّا، والتوسّع أفقيّا داخل المجتمع.
ثانيا : بذل أقصى ما يمكن من الجهد لإقناع «أعداء الماضي»، من سلطة محليّة وقوى اقليميّة ودوليّة، الغرب خصوصا والولايات المتحدة على الأخصّ، أنّ قطع «الجماعة» مع «العنف» خيار استراتيجي، وليس مجرّد «تقيّة» ذات بُعد تكتيتي، بل حصل (في تونس والمغرب على وجه الخصوص) أن تمّ «القطع» المعلن والعلني، مع أيّ مرجعيّة اخوانيّة…
على المستوى الداخلي (العمق الاخواني) ساعد قمع السلطات الحاكمة وبطشها، وما صاحب ذلك من زجّ في السجون وتيه في المنافي على بروز تيّار يرى في «المواجهة» مجرّد «انتحار». مع المحافظة دائمًا وأبدًا على «غريزة التمكين» التي تمّ نقلها من «سيف الحاكميّة» إلى «صندوق الاقتراع».
عند دراسة فتح حكم الرئيس المصري الراحل محمّد مرسي العيّاط، ومسيرة زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي منذ أن لمست قدماه أرض مطار قرطاج الدولي إثر سقوط رأس النظام السابق إلى يوم الناس هذا، وكذلك أداء حزب العدالة والتنمية في المغرب الأقصى خاصّة منذ جلوس بلكيران على كرسي الوزارة الأولى إلى صورة امضاء العثماني على وثيقة التطبيع جنبا إلى جنب مع مستشار رئيس وزراء العدوّ الصهيوني، يكون اليقين أن السعي كان على مسارين :
أوّلا : تفادي الفخاخ التي وضعها «المخزن» (المغرب) و«المنظومة القديمة» (في مصر وتونس) لإثبات أنّ «الإخوان» لا يصلحون للسلطة، ومن ثمّة عاجزون عن تأمين وعودهم الانتخابيّة.
ثانيا : السعي المحموم لتوسيع «المجال المشترك» مع الغرب عمومًا والولايات المتّحدة خاصّة، أو بصفة متزايدة العمل على عدم انحسار هذا «المجال المشترك»، الذي وصل حدّ الانغلاق أحيانًا…
دفاع سعد الدين العثماني عن «التطبيع» مع الكيان الصهيوني البغيض، دليل عن عجز «الفكر الإخواني» (في نسخه المغربيّة) على الحفاظ على هذا «المجال المشترك»، وبالتالي فقدت «الجماعة» في المغرب الأقصى أيّ موطأ قدم، حين كان الخيار بين الاستقالة وما يمثّله من هدم بل نسف لما ترى «الجماعة» أنّها مكاسب سنوات عديدة من العمل السياسي في مواجهة «مخزن» لن يرضى عن هذه «الجماعة» مهما بذلت ومهما تنازلت من جهة، وبين القبول أو هو التسليم بالموقف والمضي قدما في الدفاع عمّا هو «التطبيع»…
إصرار «المخزن» (وعلى رأسه العاهل المغربي) على جعل رئيس الوزراء سعد الدين العثماني يمضي اتفاقية التطبيع، لا يعدو أن يكون مزيدًا من التوريط وقطع خطّ الرجعة، والحال (على المستوى البروتوكولي) مثلّ كلّ من الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكيّة، شخص برتبة «مستشار» رأس السلطة التنفيذيّة، وبالتالي كان على أحد مستشاري العاهل المغربي الامضاء عوضا عن العثماني.
يمكن الجزم أنّ صورة سعد الدين العثماني وهو يعرض أمام المصوّرين «معاهدة التطبيع» شكّلت زلزالا لن يقلّ تأثيره عن اعدام السيّد قطب، حين تبيّن فشل بل إفلاس نظريّة «الوقوف دائما ضمن المجال المشترك» بمعنى تقديم صورة جيّدة أو أقلّها محترمة عن الذات أمام العمق الاخواني أولا وداخل البلاد ثانيا، وكذلك الظهور دائمًا وأبدًا في صورة «الفتى النظيف، المهذّب اللطيف» أمام الغرب، ومن ثمّة إفلاس مسيرة تزيد عن خمسين سنة على الأقلّ…
لم يفهم الإخوان الذين انخرطوا في مسعى «المجال المشترك» مع الغرب عمومًا والولايات المتحدة بصفة أخصّ، أنّ هذا المسار يحمل في اتجاه واحد، لا يقبل التراجع ولا يحتمل التقهقر، ومن ثمّة أيّ انتكاسة في هذه «الطريقة السريعة» تعني الانتحار، وهو ما يفسّر النيران (الاخوانيّة) الصديقة التي أصابت العثماني، ليس لأنّه طبّع، بل لأنّه جاء في شكل المرآة التي أبانت أنّ الخيارات الاستراتيجية اتي تمّ الرهان عليها وحدها فاشلة بالكامل…
ملاحظة : مثلما انشقت «الجماعات المسلحة» في مصر عن الاخوان إثر التخلّي عن خطّ «حاكميّة السيّد قطب»، ترقبوا زلزالا داخل الإخوان إثر إفلاس نظريّة «المجال المشترك» التي انتهت إلى صورة «الإمضاء الأخير»…