وجب أن نعترف (من باب التقدير العلمي) أنّ الاعلام التونسي (القنوات التلفزيونيّة على وجه الخصوص) سقط في «الفرجة» أي تحويل المسألة (المعروضة على الشاشة، مهما كانت ومهما كان الموضوع) من «شأن اعلامي» إلى «مادّة للفرجة»، حيث يكون شكل العرض، بل الإثارة (في حدّ ذاتها) أهمّ من الموضوع ذاته.
الإرهاب (أو المسألة الارهابيّة) لم تخرج عن هذا السياق، بل سقطت في النسق ذاته، وأصبح التعاطي معها (أيّ المسألة) من باب «صناعة الخوف» (من خلال الفرجة)، حين ثبت بالدليل العلمي أن أفضل ما يشدّ المتفرّج هما «المتعة» في مقابل «الخوف»…
هي صناعة بأتمّ معنى الكلمة، بدءا بالفرجة على «مصائب الآخرين» (وفضائحهم)، حين يتمّ تحويل «الهدف المعلن للبرنامج» (أيّ «المسامح كريم» وكذلك «الحقّ معاك») من «إيجاد الحلّ»، أيّ مساعدة المحتاجين، وما تمثّل من غاية نبيلة، إلى (وهنا الخطورة) إلى «فرجة» أو «هي تعرية» (بأتمّ معنى الكلمة)…
تناول «مسألة الارهاب» (في تونس) لا يختلف عن برنامج «الحقّ معاك» أو «عندي ما نقلّك»، فقط عوض تعرية من جاء يعرض مشاكله العائليّة والجنسيّة خاصّة، يتمّ تعرية الخوف داخل المتفرّج أي جعله متعلّقا بهذه «الفرجة» من باب السعي وراء «الطمأنينة» في حين أنّها تصنع العكس (هنا أيضًا)، بأنّ تعمّق من هاجس الخوف…
يعتمد الإعلام التونسي (المرئي) أساسًا سياسة «الصدمة»، أي الذهاب أقصى ما يمكن في نقل «الواقع الارهابي» (كما هو)، ألم تعرض القناة الحكوميّة صورًا لمذبحة الجنود في الشعانبي، في مشاهد جدّ مزرية وجدّ صادمة، ليس فقط على مستوى الذوق العام، والقدرة (أو عدم القدرة) على مشاهدة مثل هذه الجريمة، بل في الحطّ من المعنويات العامّة للجيش وتقديم صورة سيئّة عن هذه المؤسّسة؟؟؟؟
مصيبة أصحاب القرار الاعلامي في المؤسسّات التلفزيونيّة التونسيّة أنّها تتذرّع بنقل «الحقيقة» وأنّها (مجرّد) «ناقل» للخبر، بين موقع الخبر والمتلقّي، وأنّ (وهنا المغالطة) نقل المادّة (كما هي) يمثّل أرقى أنواع الشفافيّة….
لا يعلم هؤلاء، أنّ الاعلام لا يقدّم «الحقيقة» ولا يمكن أن يقدّم «الحقيقة»، بل هو يقدّم «صورة» عن هذه «الحقيقة»، بمعنى أنّ الوسيلة الاعلاميّة، والمسؤول عن النشرة الاخباريّة وكذلك الصحفي بمعيّة المصوّر التلفزيوني، سيختار زاوية للتصوير ومادّة للتصوير ويعتمد رؤية للتركيب، ويؤلّف نصّا مصاحبًا، ممّا ينفي نفيا قاطعًا لا لبس فيه، نظريّة «الحقيقة المجرّدة»، وبالتالي لم تعد من تعلّة للتخفّي وراء (هذه) «الحقيقة المجرّدة»…
كذبة «الحقيقة المجرّدة» لا يمكن أن تكون حتّى في حال «كاميرات المراقبة» (أينما كانت) لأنّ من قرّر وضع هذه الأجهزة، ومن نصبها في مكانها، حدّد مجال التصوير وزاوية الالتقاط، ومن ثمّة تأتي هذه المحدّدات غاية في ذاتها، تنتفي معها نظريّة «الحقيقة المجرّدة»…
دون السقوط في «نظريّة المؤامرة» والقول بوجود «نيّة سيئة» أو بوجود (كذلك) «غرفة عمليات» (تشرف على هذه الصناعة)، يمكن الجزم (من منظور علمي بحت)، أنّ وسائل الاعلام في تونس (القنوات التلفزيونيّة) تمارس تدميرًا منهجيا للروح الوطنيّة، سواء على مستوى تضخيم الأخطار أو عرض أثاره….
في دولة تسعى للانتقال الديمقراطي، وقد صارت فيها ممارسة الاعلام، تعمل وفق «من شاء وأراد يفعل ما شاء وأراد»، لم يعد ممكنًا، بل يستحيل العود إلى سيطرة فوقيّة على كلّ وسائل الاعلام بدون استثناء. التكنولوجيا صارت تمكّن المواطن العادي المجهّز بهاتف عادي من تصوير ما يريد وبثّ ما يريد، دون أن ننسى «روح التمرّد» القائمة داخل المجتمع بفعل عشرات السنين من الكبت ولجم الحريّات.
كذلك لا يمكن في أرقى الديمقراطيات (في علاقة بموضوع الارهاب) أن يفعل «من شاء وأراد ما شاء وأراد»، لذلك وجب التفكير في تفعيل الجهات ذات «السلطة الاعتباريّة» (أوّلا) القادرة على رسم «مدوّنة سلوك» يتبناها أهل الصحافة عن مشاركة ووعي وقناعة وليس عن ضغط واسقاط والزام، وكذلك تسطير علاقة «تكافؤ» بين الجهات الإعلاميّة في مقابل الجهات التي تحارب الارهاب، وفق نظريّة الاختصاص أوّلا، وثانيا (وهنا الأخطر) أنّ الارهاب (فعلا ومقاومة ومجابهة) يتجاوز الجانب الأمني والعسكري إلى الجوانب الاعلاميّة، دون أن نُغفل الجوانب الاقتصاديّة والثقافيّة وحتّى التربويّة والسيكولوجيّة.
الاسهال الذي نراه على القنوات التلفزيونيّة لسيل من «المحلّلين الأمنيين والعسكريين»، العاجزين (في أغلبهم) عن التمييز بين «المعلومة المجرّدة» في مقابل «التحليل والاستنتاج»، والذين لا يميّزون في تسابقهم نحو «النجوميّة» بين «الحقيقة المجرّدة» (مرّة أخرى) في مقابل «واجب التحفّظ» الذي يبقى ساريا قانونيّا عشر سنوات بعد مغادرة الوظيفة، وأخلاقيا مدى الحياة، حين يأتي «الضمير الوطني» فوق الحقيقة مهما كانت…
ما نراه على القنوات الفضائيّة التونسيّة، مجزرة تتمّم مجازر الارهاب، حين يضرب الارهاب الأنفس والمعدّات، في حين تدمر هذه القنوات الروح المعنويّة وتفني العزيمة في معناها الوطني.
ينتصر الارهاب، عندما يتحوّل إلى مجرّد حرب. التصدّي المادّي له واجب بل أولى الواجبات، لكن لا يمكن لقوى الأمن الداخلي والحرس الوطني وقوات الجيش أن تكون بمفردها في الميدان. عندما تدمّر القنوات الفضائيّة المعنويات…
متألق كالعادة استاذ شكرا . وبعد ما يحصل من مهازل موجهة من ما يسمى بالاعلام التونسي يؤكد حقا اتيكات اعلام العار الملصقة به. وما تقيأ به ما يسمى خبراء وسياسيين من تحليل تبرز الفقر الفكري والغباء “الماسط” لهؤلاء وحيثيات الضربات الارهابية المتتالية تذكرنا بمقولة الاستاذ قيس سعيد:” اذا كان الارهاب أكبر من الدولة فهو من الدولة”. محبة
مشاكسة لوليد
الرجاء إصلاح الأخطاء:
“جدا مزرية وجدا صادمة”
“لم تعد هناك من تعلة”
مقال ليس في ه أخطاء