يجد الباجي قائد السبسي نفسه في تناقض صريح وصارخ، بين ما صنع لنفسه من «مجد» جاءت به انتخابات تشريعيّة ورئاسية مكنته ومكنت حزبه من المكانة الأولى، من ناحية، وما يعيش حزبه من «شقوق» وكذلك من بوادر «التفتّت»، التي من المؤكّد ستجعل (هذا) الحزب خارج المشهد الفاعل (من الدرجة الأولى) ممّا سيفتح (وقد فتح) شهيّة أحزاب أخرى (ذات إرث تجمّعي) تفعل ما في وسعها للسطو على «الإرث الانتخابي» لهذا الحزب.
من ناحية أخرى، يجد الباجي حزبه وقد تراجع في شدّه أمام حزب «شريكه» (اللّدود) أيّ راشد الغنّوشي، زعيم حركة النهضة، ممّا أثّر بالسلب على علاقة «التوافق» مع «جليسه/شريكه» (هذا) ، الشيء الذي دفع الباجي إلى تعويض هذا «النقص» من خلال سعي أكبر للسيطرة المباشرة على المشهد السياسي، وكذلك (وهذا الخطر) فتح الباب أمام تشكيلة (سياسيّة) أوسع (حكومة الوحدة الوطنيّة)…
يوقن الباجي قائد السبسي أنّ زمن «المعجزات» قد ولّى دون رجعة (مع الأنبياء عليهم السلام) ومن ثمّة لا أمل (البتّة) يخالجه بإحياء «عظام» النداء التي صارت رميمًا، خاصّة وأن خطر التفتّت يشتدّ يومًا بعد أخر، ممّا يدفعه إلى التفكير ولِمَ لا السعي لتشكيل «كيان شديد»، يمكّنه من العود بقاعدة سياسيّة صلبة أوّلا، وثانيا التقدّم على حركة النهضة (الشريك اللدود)…
يعلم الباجي قائد السبسي أنّ الأحزاب (على عكس الخرافات) لا تنزل من السماء ولا تأتي صدفة، ويعلم كذلك أنّ عليه أن يستخدم «المواد» (ذاتها) التي استعملها لتشكيل النداء، أيّ (كما يقول المثل الافرنجي) «صياغة الحديث من العتيق»…
يدري الباجي بل هو اليقين أنّ إعادة تشكيل «الحزب» (من جديد) لن يصنع له «حزب ملائكة» بعد أن تحوّل النداء (أو شقوقه) إلى «حزب شياطين» أو هي «ذئاب» (كاسرة)، لا همّ لها سوى القتال (بجميع الأسلحة) من أجل الفوز بأيّ «قطعة» كانت من «الغنيمة»…
اليقين قائم لدى الباجي، أنّ «حزب الوحدة الوطنيّة» الذي يفكّر في تشكيله، لا يعدو أن يكون سوى ربحًا للوقت ضمن سباق الوجود مع النهضة ومع الكيانات السياسيّة القائمة ضمن المشهد السياسي الماثل أمامه، بل هو يدرك أنّ «المحاولة/الاجتهاد» تأتي أقرب إلى «أضعف الأيمان» أو شعار «المحاولة أفضل من القعود»…
الأسباب ذاتها التي دعت إلى «صناعة» النداء، هي التي تدعو إلى «إعادة تصنيعه»، خاصّة وأنّ «الحزب الحاكم» في تونس سبق له أنّ «غيّر جلده» عديد المرّات (منذ الاستقلال وحتّى قبله)، سواء على مستوى التسمية أو «الايديولوجيا» (المعلنة) أن حتى شكل «العلاقات داخل الحزب» بما في ذلك علاقة «الزعيم» بالحزب وأيضًا علاقة «الحزب» بالواقع السياسي في البلاد (السلطة التنفيذيّة أساسًا).
يأتي نداء تونس (ولا يزال) «الحزب» الذي فاز بالانتخابات التشريعيّة (أي الحزب صاحب أفضل عدد من المقاعد) وكذلك الحزب الذي أوصل (أساسًا) الباجي إلى قصر قرطاج، وهو الحزب الذي تنتمي إليه الرئاسات الثلاث، أيّ الباجي ومحمّد الناصر ويوسف الشاهد.
تتناقض هذه «الاحصائيات» أو هذا التشخيص مع ما نراه بأمّ العين: محسن مرزوق «هاجر» ومن معه وقطع «الحبل السرّي»، في حين تبدي شقوق النداء (كما هو حال المغناطيس) تنافرًا يشتدّ يومًا بعد يوم.
يدرك الباجي أنّ لا سلاح له غير «قيمته الاعتباريّة» (أيّ الهيبة)، ويدرك أيضًا أنّ هذه «القيمة/الهيبة» ليس فقط تآكلت وأتى الزمن على الكثير منها، بل صارت عديمة التأثير في عين العديد من «ذئاب» النداء، الذين شقّوا عصا الطاعة جهرًا وعلانيّة، وهم (في المقابل) فقدوا بالتأكيد «العذرية» التي جعلتهم يلتحقون بالمشروع عند انطلاقته، أشبه بالحواريين (في العشاء الأخير) حول السيّد المسيح عليه السلام..
لذلك، يأتي اليقين أنّ «الحزب القادم» (على عجل)، سيكون (مقارنة بالنداء) أشبه بالكائن «المعدّل جينيا» أيّ أنّ «حظّه» (في الحياة) سيكون أقصر بكثير من عمر النداء، وأساسًا أنّ قدرته على «الفعل» (الانتخابي) سيكون أقلّ قيمة بكثير، ممّا يجعل «اللعبة» بكاملها أقرب إلى ربح الوقت من «المسعى» الحقيقي والصادق…
هو «وباء» أصاب «العائلة السياسيّة» (بكاملها)، لكن بدرجات متفاوتة، ومن ثمّة يكون من المضحك أو الهراء الحديث عن «الحزب الأفضل» بل وجب البحث عن «الحزب الأقلّ سوءًا»، حين تحتلّ النهضة (إلى حين) هذه المكانة، وبالتالي وجب الحديث أو البحث عن «أصل (هذا) الوباء» ومدى تغلغله في الطبقة السياسيّة بكاملها، وليس (كما نرى) من مناكفة أشبه بما هو «صراع الديكة» في غياب الدجاجات.
أهميّة الباجي وخطورة فعله أنّه لاعب من «الدرجة الأوّل» أيّ أنّ تأثيره (بحكم السنّ والتجربة والحنكة والمنصب) شديد، بل (هو) أحد أهمّ صانعي الواقع ومن ثمّة المستقبل السياسي ومستقبل البلاد بصفة أعمّ.
السؤال لم يعد يعني مسعى الباجي لصناعة «غول جديد» أو مدى الفشل المعلن والأكيد، أو أيّ قدرة ستكون لهذا «الكائن» على (إعادة) صياغة المشهد السياسي، بل (وهنا الخطورة) من الجهة التي تقف وراء هذا التفتّت المعلن (المبرمج ربّما) لجميع الأحزاب (بدرجات متفاوتة)، ممّا يقود (أو هو بدأ يقود) إلى «ترهل» جميع «الكائنات السياسيّة» جميعها، وتراجع «الاهتمام» (الشعبي) بالشأن السياسي، ممّا يقود إلى القطيعة بين «الشأن العام» مقابل «الشأن السياسي» ويقود (وهنا المصيبة) البلاد إلى «دعوشة» (من الأسفل) أو «عسكرة» (من فوق)…