الناظر إلى الاستعداد المحموم للانتخابات التشريعيّة في الجزائر، والمنغمس في ما أمكن من تفاصيل هذه العوالم، يدرك بما لا يدع للشكّ، أنّه يقف أمام كتاب «العبر» للعلاّمة عبد الرحمن بن خلدون، حين تفوّقت «المقدّمة» على المتن، بل انقلبت على المستويين التاريخي والمعرفي، أكثر أهميّة وأعمق تحليلا.
هكذا هي الاستعدادات لهذه الانتخابات، معارك على كلّ الجبهات وداخل كلّ الأحزاب، ممّا يعني أنّ «ثمن» الوصول في مرتبة «متقدّمة» عند الانطلاق (أيّ يوم الاقتراع)، يأتي أشدّ أهميّة بل من العمليّة ذاتها، ممّا يدفع للتساؤل (المعرفي) عن «الآليات» المعتمدة لفرز هذه «النخبة» المقبلة على هذه «الانتخابات»؟؟؟؟
المراجع للإعلام الجزائري وكامل المحامل الأخرى، يهوله حجم الصخب المصاحب لهذا الاستعداد وكمّ الضوضاء الذي يلفّ هذا «الصراع» (الداخلي) الذي يسبق «الصراع» (المفتوح) من أجل الفوز بمقعد تحت قبّة المجلس التشريعي. اللافت للنظر والغريب، أنّ (هذا) «الشأن السياسي» أيّ فرز النخبة السياسيّة من خلال الانتخابات، جذب أطيافًا لم تكن ولا علاقة لها بهذا المشهد (عادة)، ممّا يعني (وهنا الخطورة) أنّ «شهيّة الفوز» وما هي «الرغبة في الانتصار» عاجزة أو هي دون القدرة على فرز «أهل السياسة»، ومن ثمّة وضع «الحواجز» (المعرفيّة)، بين هذه «الطبقة» وبين الأطراف (الأخرى) الفاعلة ضمن المجتمع الاقتصادي (خاصّة).
من ثمّة انقلبت الانتخابات التشريعيّة في الجزائز إلى مصعد مفتوح على مصراعيه، أمام جميع الطامحين إلى ركوبه، دون قدرة «الطبقة السياسيّة» (التقليديّة) على ضمان «أخلاقيات» (في حدّها الأدنى)، أيّ (بمعنى) التأكّد من أنّ «ثمن الامتطاء» (هذا)، ليس فقط لا يتعارض مع «القوانين والتشريعات»، بل «ينخرط» ضمن مسار يخدم الحدّ الأدنى من الاستقرار ويدعم التحوّل الديمقراطي في البلاد.
عبارة «الشكارة» [التعبير المحلّي للفظ «الكيس»] التي أصبحت مرادفة للمال الوافر، خارج النظام البنكي وفي تعارض من قواعد الاقتصاد «النظيف»، دخلت هي الأخرى معترك «الانتخابات»، ليس فقط على لسان وأقلام «الفئات» الناقدة والجماعات «الرافضة»، بل (وهنا الخطورة) على لسان من هم «قادة اللعبة» الحزبيّة، الذين لم يعد بإمكانهم انكار هذه «الشكارة»، وثانيا (وهو الأخطر) اعتمادها ضمن «أسلحة» هجوم هذا الطرف على ذاك، سواء من باب تحطيم الجهات «المعادية» أو «تبييض» الذات ونفي التهمة.
لا تهمّ هذه الأعراض المرضيّة لذاتها، أو ما هي «جمالية» اللعبة على المستويين الفرجوي والوظيفي كذلك، بل في أمرين خطيرين:
أوّلا: تأتي الدليل المادي على عجز «الأحزاب» على أن تكون في الآن ذاته، الوسيط بين العمق الشعبي من جهة، والقيادات السياسيّة، وكذلك، ودليلا عن عجزها عن تأمين «تصرفات» سياسيّة (أثناء الاستعداد) تحترم الحدّ الأدنى من «الصورة» المطلوبة.
ثانيا: تمثّل مصدر خوف من التفتيت المتواصل لهذه الطبقة السياسيّة، ممّا يعني أنّ غياب هذا «الوسيط» وعدم قدرته على القيام بدوره، يقود إلى توسيع السؤال، سواء عن «الاستقرار السياسي» القادم، أو «الأداء السياسي» لهذه «الجماعة» التي تؤدّي دور «السلطة التشريعيّة» دون القدرة على أن تمثل أيّ «سلطة» كانت.
هو سرطان، ربّما يجعل أعضاء أخرى تبدو قويّة، حين تراجع «العضو التشريعي» عن لعب دوره المطلوب والطبيعي، ممّا يؤمّن سيطرة وسطوة من «السلطة التنفيذيّة» على هذا «العضو المريض»، لكنّ «الداء» سرعان ما يجعل «الجهة المسيطرة» تعيش هي الأخرى الخوف ذاته، ليس فقط من فقدان هذه السيطرة وهذه السطوة، بل (وهنا الخطر) أن يصبح وجودها محلّ سؤال وتساؤل.
دخول «جهات لم تمارس السياسة» ولم تقدم قدرة على تأمين قراءة موضوعيّة لهذا الشأن، وأساسًا اعتمادها «الشكارة» مفتاحًا أوحدا، لدخول «الجنّة» التشريعيّة، هو بصدد دفع الفائزين والفائزات في سباق «العمل التشريعي» نحو استرجاع هذا «الاستثمار» وثانيا، إلى أولويّة «قضاء الحاجات الشخصيّة» على «تلبية الشأن العام»، وثالثًا (وهنا المصيبة)، تدجين الفكر السياسي بكامله وتحويله إلى نمط من «المقايضة»، أيّ جعل المال ولا شيء غير المال، محرّكًا لمرجعيات النوّاب.
تتجاوز المسألة وتتعدّى الانتخابات وأساليب الاستعداد لها، في بلد لم تستقر الديمقراطيّة فيه جزءا من حراكه السياسي، ليكون السؤال عن صلابة «الجبهة الداخليّة» في زمن لا يزال «العقل الواعي» في الجزائر، يحذّر دون هوادة من «الخطر الخارجي»، ممّا يستدعي السؤال عمّا هي هذه «السلامة» في ذاتها، أوّلا، وكذلك وثانيا، القدرة على «امتصاص» الصدمات، دون القول عن ردّ الصاع صاعين.
يعرف الكلّ في الجزائر ويدرك أنّ «الآلة» الماسكة لدواليب الدولة والضامنة للاستقرار فيه، لا تعتمد ولا تتكل على السلطة التشريعيّة، سوى لمجرّد صناعة «الصورة الديمقراطيّة» فقط وحصرًا، ولا يمكن أن تعتمد هذه «البناية» (بمن فيها) أبعد من «الحاجة» إلى (هذه) «الصورة»، من باب عدم «الثقة» في المنطق الديمقراطي القائم، الذي يجعل من هبّ ودبّ يدّعي ما شاء وما أراد، وتعتبر هذه «الآلة» أنّ «الامساك» الفعلي والفاعل، بدواليب الدولة ومفاعيلها، بما في ذلك «تدجين التشريعي» وافراغه، تمثّل جميعها «ضمانات» سواء من أجل مسك كامل ومكتمل لهذه «الدولة» أو (وهذا لا يقلّ أهميّة)، القدرة على الدخول في أيّ «معركة وجوديّة، سواء في الداخل أو مع الخارج، بصفوف تجمع الطاعة بالانضباط.
أبعد من هذه «الصورة» المضحكة/المبكية القائمة أمامنا، والقادرة على سحبنا إلى مربّع السخرية والاستهزاء أو دفعا إلى البكاء أمام ما نزلت إليه البلاد، ما هي عقليّة «الملك العاري»، الطاغية على المشهد السياسي في الجزائر، حين يتقن الجميع (الأحزاب خاصّة) دور «التيّاس» أو هو «الزوج المخدوع» الراضي بقدره، بل المستفيد من هذا «الرزق»، سواء أحزاب الموالاة، وما بينها من مزايدات وسباق «الشيتة» [عبارة جزائرية تعني قمّة التملّق] أو هي أحزاب «المعارضة»، التي لا تزال «تتبوّل» في إناء السلطة ثمّ تشرب منه، في تنازع (مرضي) داخلها، بين «لزوميات» الاستفادة من «وليمة» تتقن «الآلة» (الحاكمة) طبخها، مقابل رفع «سيف العدالة»، إرضاء لذات مريضة وعقدة ذنب، ترسّخت بل هي حوّلت النصيب من «الوليمة» إلى «كابوس» قد يأخذ يومًا أنفاسها…
استثناءً لهذه «الآلة» الماسكة لدواليب الحكم في الجزائر، والقادرة على ضمان «الاستقرار» (ما استطاعت)، ومن ثمّة التفكير خارج منطق «الرقص على أنغام الطبل»، تأتي الطبقة السياسيّة، والحزبيّة أساسًا، مجرّد «خضرة على طعام» [خضار على طبق كسكسي]، أيّ مجرّد صورة، تسحر الناظرين وإن كان الطعم علقمًا…
22 تعليقات
تعقيبات: fitflop shoes store
تعقيبات: callaway collection driver