بكلّ المقاييس ومهما تكن النتائج التي ستأتي وفق ما يرجوه البعض أو هي ستشكّل «صدمة» بأتمّ معنى الكلمة، هذه الانتخابات التشريعيّة، لا تشكّل قطيعة مع سابقاتها فقط،، بل هي تؤسّس لمرحلة جديدة من تاريخ الجزائر، قد نختلف في التقدير، لكن وجب الاعتراف بأنّه يدفع إلى الساحة بما يمكن أن نسمّيها «نخبة جديدة»، لم يكن لتحلم يومًا أو يخامرها مجرّد الخيال بدخول مقرّ البرلمان بشارع زيغود يوسف بالجزائر العاصمة.
الصدمة صدمتان :
أوّلا : غلبة القائمات (المسمّاة) «مستقلّة» على المشهد، حين فاق عددها عدد القائمات التي قدّمتها الأحزاب مجتمعة،
ثانيا : غلبة أو سيطرة شريحة «الشباب» على القائمات المستقلّة، وكذلك على القائمات الحزبيّة.
ثابتان لا يمكن مناقشتهما من ذلك :
أوّلا : شريحة النوّاب من فئة الشباب ستشكّل الغالبيّة، سواء داخل الأحزاب أو من المستقلين.
ثانيا : النوّاب المستقلون سيمثلون شريحة هامّة وخاصّة محدّدة للوجه الذي سيبرز به المجلس الشعبي الوطني [البرلمان].
في حين لا تشكّل الهويّة الأيديولوجية للأحزاب السياسيّة المشاركة في البرلمان سرّا، ومنها توجهات النوّاب الذين سيمثلونها في المجلس القادم، يكمن السؤال الأهمّ والمحدّد في استقراء «اللون» الأيديولوجي لكلّ نائب صعد بفضل قائمة مستقلّة، لأنّ هذا التحديد ليس فقط يرسم وجه السلطة التشريعيّة القادمة، بل (وهنا الأهميّة) يحدّد الإمكانيات الممكنة (وفق علم الاحتمالات) لتشكيل «أغلبيّة» تقابلها بالتأكيد معارضة أو بالأحرى معارضات، يتحدّد بناء على جميعها، الألوان التي ستكوّن، هويّة الحكومة القادمة، في علاقة برئاسة الجمهوريّة، ومجمل العلاقات مع الفاعلين الأخرين ضمن المشهد السياسي في الجزائر.
هذا «التشويق» يأتي «بدعة» في بلد، كانت السلطات ليس فقط تسعى لتحديد المسارات مقدّما، بل أساسًا ترسم لكلّ حزب أو فرد، دائرة يتحرّك ضمنها، سواء لموالاة جمعتها «الجزرة» (اللذيذة جدّا) أو لمعارضة قد تؤثّر فيها «العصا» (شديدة الغلظة).
من الأكيد وما لا يقبل الجدل أن ماسك القرار في الجزائر الذي رسم الخطوط العريضة لهذه الانتخابات وحدّد أدق تفاصيلها من خلال مبدأ القائمات المفتوحة وشرط السنّ وغير ذلك، يعلم أنّه يفتح أمام الجزائر والجزائريين بابًا أو هي عوالم لم تكن قائمة وبالأحرى لم تكن إلى حين الإعلان عنها في حسابات أوسع الناس خيالا.
تدري السلطة في الجزائر أنّها تلعب من خلال هذه الانتخابات ورقة «جوكر» لا تملك مثيلا لها في التأثير، وإن كانت جعبتها لا تخلو من أوراق أخرى، حين يأتي الهدف الأساسي ويكاد يكون الأوحد من وراء انتخابات على هذه الشاكلة، أو هو الهدف الاستراتيجي متجاوزًا مجرّد «تجديد المجلس» إلى استيعاب «جبهة الرفض» المكوّنة من قوس قزح مختلف الألوان، متابين الأهداف وخاصّة يبدي إصرارا على الرفض، وأساسًا متمسّك بما هو «الحراك» ليس فقط على اعتباره شكلا من أشكال التعبير السياسي، بل (وهذا ما يزعج الدولة) الادعاء بأنّه يمثّل سلطة معارِضة، بل أكثر من ذلك سلطة «نافية» لشرعيّة السلطة التي قامت إثر فوز الرئيس عبد المجيد تبّون…
عن دراية أو عن غير وعي، قدّمت جميع الألوان السياسيّة التي شاركت في الانتخابات التشريعيّة سواء عبر الترشّح أو التصويت، إضافة ذات بال إلى «قوس قزح» انطلق بألوان قليلة جدّا، يوم الإعلان عن تنظيم الانتخابات الرئاسيّة التي أوصلت عبد المجيد تبّون إلى سدّة الرئاسية، ومن ثمّة لن يكون للحراك في جمعاته القادمة ذات الزخم الذي كان له قبل الانتخابات التشريعيّة، رغم أنّ العديد ممن وافقوا على أن يكونوا طرفا في «لعبة الانتخابات» أعلنوا وصاحوا وأقسموا وأغلظوا في القسم، أنّ المشاركة في تأسيس سلطة تشريعيّة جديدة، تمثّل في الأقصى خيارًا «تكتيكيا»، لن يغنيهم عن مواصلة النزول إلى الشارع يوم الجمعة، إلاّ أنّهم (أي من يزاوجون بين الانتخابات والحراك) سيشكلون (رغم أنوفهم، أرادوا ذلك وكانوا على وعي أو بقوا على عنادهم) «حراكًا» ضمن الحراك، أو هو ذلك الحراك المنفصل عضويّا ووظيفيا ومنهجيا عن حراك «جبهة الرفض» سواء كانت في شكل أفراد وجماعات داخل الحراك، أو الأحزاب التي رفضت المشاركة في صناعة البرلمان القادم.
يبقى الخيار قائما بل تقوم القراءة للمشهد بين وجهتي نظر :
أوّلا : هل قدّم ماسك القرار السياسي «الثمن المطلوب» بغية عزل «العناصر المناوئة» داخل حراك صرّح عبد المجيد تبّون أنّه فقد «روحه» منذ تنظيم الانتخابات الرئاسيّة التي أوصلته إلى الحكم؟ وهل سيجني صاحب القرار هذا ثمرة ما زرع؟ ومتى يكون الحصاد؟
ثانيا : هل تشكّل انتخابات بمثل هذا «الاغراء» سببا «مشروعًا» لترك الحراك والقبول بعرض السلطة، أي مقايضة «حلم المقعد النيابي» والحصول عليه بالنسبة للفائزين، مقابل تمكين الدولة من شرعيّة كانت في أشدّ الحاجة إليها، ليس فقط لإفراغ الحراك من بقيّة من تبقّى (حسب رغبتها) بل لطيّ صفحة يريد عبد المجيد تبّون أن تغلق ويرمى بها في غياهب النسيان دون رجعة؟
ما لا يقبل الجدل أنّ السلطة حقّقت انتصارًا، حين فكّرت بعقلية أن المكاسب بقدر العطاء، لكن السؤال الذي سيحدّد مسار الجزائر في الأشهر القادمة : هل يستطيع ماسك القرار السياسي تفادي ما هو منتظر من تدافع بين شباب صعد إلى المجلس دون تجربة ودون وعي بمفهوم الزمن الذي ساد قبل وصوله، ومن ثمّة يريد نفي تهمة «خيانة الحراك» بأن يسعى لنقل هذا «الحراك» وزرعه تحت سقف المجلس الوطني الشعبي؟
الإجابة عن هذا السؤال تحدّد مصير الجزائر.