لغط كثير علا وسيزيد ارتفاعا بين أنصار «ضبط الترخيص» لإنشاء القنوات الفضائية واختصار الأمر في موافقة «الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري» (الهايكا) كما هو الحال راهنًا، أي ممارسة سياسة التقطير الشديد، بل هو التنفيس بشكل جد مضبوط في ارتباط بهوية «باعث القناة» الأيديولوجية، من جهة، مقابل من يرون بوجوب فتح الباب على مصراعيه سوى «كراس شروط»، واعتبار «قانون التنافس» مثل ما هو «قانون الغاب» في عالم الحيوان.
في خضم هذه المعركة بين «هويتين» سياسيتين، وفي تجاوز للبعد القانوني الصرف، تبرز مصالح مالية وسياسية خاصّة وأهمّ من ذلك، رهانات تشكيل وعي المشاهد/الفرد/الناخب في ارتباط بالوعي/الهوية التي تسعى كل قناة لتشكيلها، وفي تشبيك مع أخطبوط من المصالح الإقليمية والدولية، التي تستند إليها، على الأقل فكريا وفي الأبعد ماليا، سواء في العلن أو في السرّ.
ثانيا، عندما نقرأ الواقع التونسي كما هو، يلاحظ المرء أن بالإضافة إلى قنوات القطاع العمومي وكمّ القنوات المرخّص لها رسميا، تبرز «منطقة رماديّة»، أين تنشط قنوات لا تلبّي «قانون الضبط» الذي من المفروض أن تسهر «الهايكا» على تطبيقه، ممّا ينقل (افتراضًا في حال تطبيق القانون) هذه القنوات («نسمة» وكذلك «الزيتونة» مثلا) من «المنطقة الرماديّة» (هذه) إلى «منطقة محرّمة» يجعل سلطة الضبط هذه تُقدم على اغلاق هذه القنوات وإن استدعى الأمر اللجوء إلى القوّة العامّة.
ثبت بالدليل المادّي القاطع أنّ الهايكا رافضة/عاجزة عن أداء الدور المنوط بها دستوريّا، ومن فوق ذلك رافضة/عاجزة عن الخروج إلى الشعب التونسي (المصدر الأوّل والأخير والأوحد للشرعيّة في دولة يدّعي حكامها جميعًا أنّها ديمقراطيّة) بالحقائق (على سبيل المثال) عن «غزوة نسمة» حين تمّ السيطرة على القناة، ثمّ كان «الانسحاب» الذي لم تفقه العقول البسيطة، مدى ارتباط هذا «التراجع» بالتحالف/الصراع بين كلّ من الباجي/الشاهد/القروي.
تبيّن أنّ «ربّ الدار» (أي الهايكا) للدفّ ضاربًا، فلا لوم على القنوات حين ترفع الصوت وتتحدّى هذه «الهيئة» (الدستوريّة) دون أن تتحرّك هذه الهيئة وتفضح في العلن وعلى الملأ ورؤوس الأشهاد، أسباب صمتها ودرجة تراجعها ومدى تورّطها في مجاهل اللعبة السياسيّة حدّ النخاع.
في زمن تنعم فيه قنوات «غير قانونيّة» بوجود لا يختلف البتّة عن «الوجود القانوني»، يمكن السؤال والتساؤل عن معنى «الترخيص» من أساسه، حين تعمل سلطة «الضبط» هذه وفق «ضبط» أعلى من ضبطها، ليتبيّن بالدليل المادّي أن معركة تضييق/توسيع المجال الإعلامي ظاهرها قانوني وباطنها صراع مصالح يتقاطع فيها المحلّي مع الإقليمي والدولي، وكذلك البعد المالي مع لوبيات المال السياسي (غير النظيف في جميع الحالات) والتموقع السياسي من خلال الانتخابات أساسًا.
إنّها أشبه بمعركة «دون كيشوت» مع طواحين الريح، حين تعجز الهايكا عن ضبط الأوضاع (كما هي)، ويتناسى الجميع (أو أغلب المورطين في لعبة الإعلام السمعي البصري) أنّ التحوّلات التكنولوجيّة بصدد إحداث تغييرات بل هي انقلابات، جعلت الجانب الظاهر من الاعلام السمعي البصري، الخاضع قانونيّا لسلطة الهايكا في تراجع، حين تمكّن تقنية IPTV مثلا أيّ قناة من فرصة الظهور على شاشات التلفزيون أسوة بالقنوات «الفضائيّة» دون الحاجة إلى أيّ بثّ فضائي، علمًا وأنّ القنوات ذات الاشعاع الأكبر في العالم مثل «نتفلاكس» وأخواتها وما صارت إليه من حجم وما هي القدرة على التأثير، لا يمكن أن تخضع في حال شاءت هي أو غيرها، البثّ من التراب التونسي، لأي حكم من أحكام الهايكا، التي يمكن أن نقارن وضعها الحالي ببائع أشرطة مسجلة في زمن التسجيل الرقمي، لا يملك جرأة النظر أسفل قدميها لتتيقّن أنّه لن يجد موطأ قدم له في المستقبل القريب جدّا جدّا…
فقط يمكن تفسير ارتفاع الأصوات راهنًا بارتباط هذه المعركة غرائزيا بما هو دائر من صراع بين الأطراف السياسيّة. الصراع في بعده الراهن وما هي سخونة المشهد، دون النظر إلى أنّ المسألة لا علاقة لها البتّة بالتراخيص، بل بالقدرة على جلب المتفرّج، حين عجزت القنوات الدائرة في فلك النهضة عن تقديم الحدّ الأدنى من الإعلام الفاعل والفعّال، مقارنة بمن يسمّون (وفق قاموس النهضة) «إعلام العار»، لنتأكد أن وقوف كتلة النهضة وراء قانون «التوسيع» لا يعدو أن يكون سوى «تزويرًا للتاريخ» حين يعود العجز إلى فقدان القدرة على الابداع وتقديم مادة تجلب المشاهد وليس (فقط) إلى احتكار «إعلام العار» القنوات القائمة راهنًا.
الخلاصة : اتلمّ المتعوس على خايب الرجا….