المراجع لبعض أو لجلّ الصحافة التونسيّة، أو الإعلام في بلد فجّر (ما يسمّى) «الربيع العربي»، يتخيّل أنّ العالم يدور حول تونس. إحساس أو وهم أسّسه بورقيبة، لعب عليه بن علي، ولا يزال الوعي الجمعي، لفئة غير قليلة ممّا يسمّى «النخب» الاعلاميّة والسياسيّة، التي تتصرّف أو بالأحرى تتكلّم على أن الفرد منهم يقول للعالم وللدنيا وللبشر: «كن فيكون»…
الخطير بل الأخطر، أن تتحوّل هذه «الآفة» (عافانا وعافاكم الله) إلى الأصل وليس الاستثناء، ويستطبن رجال الإعلام والسياسية، أنّ العالم لا يفكّر سوى في تونس، بل يفكّر العالم في تونس، كما هم يفكّرون. وصل المرض بالبعض، من خلال تصريحات رسميّة أن فكّر ونطق نيابة عن دول ومسؤولين. مثال ذلك العبدولي عندما «تطوّع» لتفسير، بل تليين تصريحات نيكولا ساركوزي العدائيّة تجاه الجزائر.
النظرة إلى الجزائر، الحكم وأساسًا إلى طبيعة الحكم في هذا البلد، تثبت من خلال مطالعة الإعلام، أن الطبقة السياسيّة بل الحياة السياسيّة منقسمة وعلى نمط الطبقة والحياة السياسيّة في تونس، أيّ أنّ على «العلماني» الجزائري أن يكره «الاسلامي» الجزائري، كما يكره «العلماني» التونسي نظيره الاسلامي، وفق قاعدة العداء/الفرز الأيديولوجي المرضي والحيواني المسيطر على الساحة التونسيّة منذ زمن بن علي، وظهر «خوره» منذ (ما يسمّى) «الثورة» التونسيّة…
حسبت الطبقة المعادية سواء لوجود الاسلاميين أصلا أو ممارستهم للسياسة، في تونس، أنّ «العشريّة» السوداء البغيضة في الجزائر، ستجعل النظام هناك، يصطفّ إلى جانبهم، بل يمدّهم بالمال والسلاح، أو هي «الدبّابات» الجزائريّة، تدير محركاتها الهادرة، غزوا لتونس وانقاذا لها، كما خدع الهادي البكّوش ابن جهته وعدوّه اللدود سابقًا حمّادي الجبالي على وجه الخصوص، يوم 23 أكتوبر 2011. نجحت الخدعة والتاريخ وحده، يحدّد السبب: هل كان البكّوش ذكّيا ماكرًا، أم كان الجبالي ساذجًا وأبلهًا…
لا حاجة للقارئ العادي والمتابع للشأن السياسي إلى معرفة الأسرار ومحاضر الجلسات السريّة في الجزائر، لمعرفة أسلوب تفكير القيادات الجزائريّة وطرائق عملها. يكفي مطالعة الكتاب (في جزئين) للزميل الصحفي الجزائري محمّد يعقوبي (صادر عن «دار الشروق» الجزائريّة)، وجمع من خلاله حوارات مطوّلة وصريحة بل محرجة مع قيادات «الجبهة الاسلاميّة للإنقاذ»، وكان ملخصها الأوحد: «في حال عاد الزمن إلى الوراء، لن نعيد فعل ما فعلنا (أيّ حمل السلاح ضدّ الدولة)»، وعلى رأس القائلين بل «التائبين» عبد القادر بوخمخم، الذي يمكن تصنيفه دون خوف ضمن الجناح «الأكثر تطرّفا» من بين قيادات الجبهة الاسلاميّة للإنقاذ.
على النقيض من ذلك، أعربت العديد من القيادات السياسيّة والعسكريّة خاصّة، التي حاربت «الإرهاب»، أنّهم يريد استئصال «الارهاب» وكذلك (ولا يزال) استئصال الارهابيين، دون الاسلاميين المؤمنين بشرعيّة الدولة والتداول السلمي على السلطة.
ضمن هذه النظرة، ومن خلالها ترى الجزائر الرسميّة (الرئاسة، وزارة الخارجيّة، وزارة الدفاع والمخابرات) تونس بكاملها، مع جزم صريح وتأكيد لا يقبل النقاش بأنّ «الخلافات» بين هذه الجهات الأربعة بخصوص الملّف التونسي (سواء القراءة أو القرار) لا تجاوز سطر بسيط من مجلّد ضخم. من ثمّة اهترأت «جهات تونسيّة» على رأسهم نبيل القروي في محاولة النفاذ إلى ما بدا له خلافات/اختلافات بين جهات جزائريّة.
حصرًا للرؤية، يمكن تضييق المشهد أو أخذ مثال «شريكيّ التوافق»، أيّ راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي، مع الاعتراف أنّ هذا «التضييق» يقدّم (فقط) جزءا هامّا جدّا من الحقيقة. حسب الباجي ومن معه، سواء زمن رئاسة الحكومة أو رئاسة الجمهوريّة أو ما بينهما زمن المرزوقي، أنّ الجزائر ستنظر إليه من خلال «الصداقة التاريخيّة» مع «سي عبد القادر» (الاسم الحربي للرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة)، وكذلك من خلال الصراع العلماني/الاسلامي على قاعدة الاصطفاف الذي شهدته الجزائر أثناء العشريّة السوداء، في حين أنّ الجزائر تنظر إلى الباجي (وغير الباجي) من خلال أمرين: الموقع والقدرة على الفعل.
موقع الباجي الحالي داخل «نداء» تنخره الشقوق، يحدّ من موقعه داخل البلاد، بمعنى أنّ قوّة الباجي حاليا (بالنسبة للطرف الجزائري) تكمن في «منصب الرئيس»، أكثر منه بكثير جدّا من عمقه «الحزبي» أو أيّ «قاعدة جماهريّة»، مع تأكيد أنّ الجزائر «الرسميّة» [هذه معلومة مؤكدة] لم تغفر ولن تغفر للباجي حديثه مع الصحفي الفرنسي «جان بيار الكبّاش» داخل متحف باردو، عقب الاعتداء الارهابي عندما صرّح: «ما وجدنا مجموعة ارهابيّة، إلاّ وكان جزائريّا على رأسها»… الجملة في حدّ ذاتها «قنبلة»، تصبح «سلاح دمار شامل» عند نطقها أمام جهة فرنسيّة.
على النقيض من ذلك، تعشق الجزائر «ذكاء» الغنوشي وقدرته على الفهم والاستجابة سريعًا، خاصّة أنّه على مستوى «الموقع» يرأس «الحزب الأفضل تنظيمًا» في تونس، وعلى مستوى القدرة يملك شبكة علاقات دوليّة ضخمة وقدرة على التأثير في مجمل المشهد الإسلامي/الاخواني في العالم. إلاّ أنّ الجزائر (رباعي القراءة والقرار) يثق في الغنوشي دون أدنى ثقة في النهضة، وثانيا (وهذا الأهمّ) تعتبر الثقة في الغنوشي قائمة ما حافظ على مسافة أو هو توازن إن لم نقل درجة من «الاستقلاليّة» أو «حريّة الحركة» عن «التنظيم الدولي»، ممّا يعني أنّ العلاقة مع الغنوشي تخضع لتقييم دائم ومراجعة متواصلة، قراءة لهذا «التوازن» بين «الاستقلاليّة» و«غريزة الإخوان» داخله التي (وفق قراءة جزائريّة) لا يمكن الوثوق بها بالكامل.
يمكن الجزم دون أدنى نقاش، أنّ صورة «صاحب المشروع» محسن مرزوق وهو يمضي في واشنطن، بروتوكول التعاون مع الحلف الأطلسي تحت أنظار «النهضاوي» أسامة الصغيّر، تلخّص لدى الطرف الجزائري «انفصام» العلاقة بين الأطراف التونسيّة، وثانيا والأهمّ، تؤكّد وجود «جناح داخل السلطة» التونسيّة، على استعداد لطعن الجزائر مقتلا، بل المساهمة في «حرق البلاد» وفق تعبير مسؤول جزائري.
السماح لطائرات أمريكيّة دون طيّار (زمن المرزوقي) بخرق المجال الجوّي الجزائري انطلاقا من تونس، مثّل «الطعنة الأولى»، خاصّة أنّ هذه الطلعات لم تتوقّف «بالحسنى»، بل (فقط وحصرًا) حين أسقطت الجزائر طائرة أولى تمّ العثور عليها نواحي القصرين، وثانية سقطت بالكامل داخل الجزائر.
الحوار الذي «صنعه» المقدّم محمد علي العروي، عندما كان على رأس قسم الإعلام بوازرة الداخليّة التونسية مع «ارهابي تونسي»، يعتبره الجانب الجزائري، دليلا من جملة أدلّة على تورّط «أطراف رسميّة» في مؤامرة على الجزائر، حين جاء في أقوال «الإرهابي» أنّ «قيادة الإرهاب» في تونس جزائريّة، وأنّ التونسيين يمارسون «الإرهاب» عن «طمع» وعن «خوف» من الجزائريين. ضابط رفيع جزائري شاهد الفيديو، هالته الصورة المقدّمة عن «التونسي» من قبل الضابط/المقدّم حامل الزيّ الرسمي محمّد علي العروي، الذي حصر التونسيين بين «الذلّ» مقابل «الطمع»، وهاله أكثر «صمت التونسيين» رئاسة وحكومة وشعبًا، وعدم «الغضب» لكرامتهم…
في المحصّل، يمكن الجزم، رغم التصريحات الرنّانة والجمل الدبلوماسيّة الجميلة، وما هي نوايا معلنة على المنابر، لا تزال العلاقات التونسيّة الجزائريّة، هاجسًا للقيادات الجزائريّة أيّ الرباعي صاحب الرؤية والقرار… رغم ملايين السيّاح العابرين في الاتجاهين.
شكرا نصر الدين تقييم جد جيد للعلاقات التونسية الجزائرية وتشعبها