بين 5 جويلية 1962 وذات اليوم والشهر من السنة الراهنة، تمرّ (على مستوى الزمن) 61 سنة، لكنّ أهمّ من ذلك، تغادر الجزائر أو بالأحرى يغادر المشهد السياسي جيل بكامله، كان شريكًا (بدرجات لكل فرد) في صياغة القرار السياسي وكذلك العسكري زمن الثورة، إلى حين إعلان وقف إطلاق النار بتاريخ 19 مارس 1962.
على المستوى الديمغرافي، لا يزال هناك عشرات أو ربما مئات الأحياء من الذين شاركوا في الثورة، لكن دون أن يكونوا أو يكوّنوا «كتلة بشريّة» ذات تأثير سياسي في الزمن الحاضر.
لا أحد ينكر أنّ بمجرّد إعلان وقف إطلاق النار في شهر مارس 1962 ومن بعده اعلان الاستقلال البلاد في شهر جويلية من ذات السنة، كان اليقين قائمًا لدى جميع من شارك في الثورة أنّ قيادة البلاد تعود إليهم بصفة آلية، سواء تمّ النظر إلى موازين القوى العسكريّة، أو (والأمر لا يقلّ أهميّة) اعتبار «الثورة» غير مكتملة دون الخروج من دوامّة «الاقتصاد الامبريالي»، من خلال بناء دولة تستجيب لبيان فاتح نوفمبر العظيم، أي دولة العدالة الاجتماعية وتقاسم خيرات البلاد بشكل يشمل الجميع.
على المستوى اللغوي بقي لفظ «الثورة» معتمدًا، سواء نظرنا إلى «مجلس قيادة الثورة» أو هي «الثورة الزراعيّة»، وغير ذلك من التسميات المعتمدة.
تجاوزًا لجميع القراءات الممكنة لمعنى لفظ «الثورة» بعد استقلال البلاد، وجب الإشارة أنّ خلافات/اختلافات عديدة جدّت بين «ثوّار الأمس» بشأن إدارة شؤون البلاد والعباد، لتكون «الثورة» (اللفظ والرمز) سلاحًا في يد من يريد اقصاء الغريم، ليسمه بصفة «معاداة الثورة»…
اعتماد «الرصيد الثورة» واعتباره قادر على تمتيع من يحمله «جوكر» قادر على سحب الأوراق التي يمسكها أيّ طرف مناوئ، شكّل «سلاح الدمار الشمال» الذي صنع أو من خلاله تمّ التأسيس لصنف من «الحصانة» أو هي «عصمة» بالمفهوم الشرعي المعتمد، تجعل حامل لقب «مجاهد» بمنأى عن المحاسبة أو هو في صفّ الأنبياء والصدّيقين، لا يأتيه الخطأ من أيّ جهة كانت.
انقلب الصراع السياسي في الجزائر أو هو انتقل سريعًا من الاختلاف المنطقي والمقلوب وربّما المطلوب بشأن إدارة الشأن العام، إلى مجهة بين من تمترسوا داخل «خندق الثورة» في استدراج لقاموس بعينه، يتقنون استعماله بحكم العادة، عن ماضيهم ابالناصع وأنّ لولاهم لكانت البلاد ترزح تحت نير الاستعمار، وختامًا أنّ المناوئين أصغر من أن يرتقوا إلى درجة تمكّنهم من محاسبة أيّ كان.
بدخول الجزائر العشريّة الراهنة وبتقدّم الزمن خبا وتراجع هذا «الخطاب الثوري» لتدخل الجزائر أو بالأحرى تنتقل المعادلة من «ماسكي الثورة» في مواجهة جميع المناوئين إلى اعتبار «الثورة» (المعنى والرمز) بعدًا شاملا للجميع، دون استئثار أو هو استفراد بالوصاية من أحد…
هذا المنطق الجديد يخرج بالبلاد ويُخرجها من «قمقم» اعتبر «الثورة» شأن «الثوّار» حصرًا إلى مبنى ومعنى يقيم علاقة مباشرة بين الحاكم والمحكوم قوامها «العقد الاجتماعي» القائم على التسليم بشرعيّة من يحكم نظير ما يجب أن يوفّره «أمن الخوف وإطعام من الجوع» ضمن الأبعاد الرمزيّة لهذا المعنى القرآني المباشر.
بمغادرة «الثورة» (اللفظ والرمز) قمقم صراع الشرعيات التي غرقت فيها منذ ما قبل استقلال البلاد، يصير (المعنى والمبنى) شأنًا مشتركًا بين الجميع، لا وصاية ولا استئثار وكذلك لا ميوعة ولا استهتار…