في تجاوز لمشروعية اعتماد لفظ «ثورة»، على اعتبار أنّ ما جدّ في الحالتين التونسيّة والسوريّة لا يتوافق بالكامل، أو ربّما لا يحوز على الحدّ الأدنى من المشترك ما كان من الثورات السابقة، مثال الروسيّة والكوبيّة كما الجزائريّة والإيرانيّة، يمكن الجزم أن اسقاط/سقوط النظام في كلّ من تونس وسورية جاء مشابها على مستوى عديد النقاط مع اختلافات عدّة أملتها طبيعة الصورتين…
في الحالتين تم تهريب الرئيس ممّا قدم (في الظاهر) صورة نجاح كامل، جعل الثورة التونسية (السلميّة) ترتقي إلى مرتبة المثال والقدوة الواجب السير على منوالها… كذلك نال سقوط دمشق في سهولة ودون أراقة الدماء الإعجاب، وأكثر من ذلك ما بذل النظام السوري الجديد من جهد كبير بغاية بثّ الطمأنينة بين صفوف الجهات التي امتلكتها (ولا تزال) مخاوف من انتشار العنف «الثوري» على نطاق واسع…
كما طرحت «الثورة» في تونس أسئلة ذات أبعاد معرفيّة، جاءت «الثورة» في سورية، لتعمّق ذات الأسئلة، دون أن تجد (مرّة أخرى) جوابًا جامعًا، ممّا أبّد الصراع، ودفع بالنقاش إلى متاهات مفتوحة.
في تجاوز (مرّة أخرى) لحالات النشوة المشروعة والطبيعيّة، المشبّعة بعواطف جدّ جياشة، العاجزة (في الحالتين) عن تأمين مقاربة موضوعيّة، يكون السؤال عن ماهيّة هذه «الثورة» بدءا، كما الأخرى، ومن ثمّة مسار كلّ منهما، وبالتالي المنتهى والعاقبة.
في الحالتين، شكّل «الطرف الإسلامي» الشريك الأقوى والغالب ضمن معادلة «الاستبدال» السياسي في البلاد. مع فارق أنّ الحالة التونسيّة عرفت ثباتًا لحركة النهضة، وعدم استقرار باقي الطيف السياسي بمجمله، رغم تقهقرها وتحوّلها إلى حزب معارض ضمن منطق الرفض المتبادل وعدم التلاقي مع النظام الماسك للسلطة، في حين يمسك بالسلطة في دمشق راهنًا، طيف يتراوح (في غموض مقصود) بين «سلفيّة جهاديّة» تبغي التخفّي من جهة، و«وسطيّة» تسعى (عن عمد) للتغطية عمّا سواها…
هو نزوح أو بالأحرى رحلة الألف ميل، رسم خطوطها رئيس حركة النهضة في تونس، راشد الغنوشي على مدى عشريّة بكاملها، ارتدى خلالها ربطة عنق فوق بدلة افرنجيّة أشدّ أناقة من السابق. صاحب ذلك «إعادة صياغة الخطاب» على اعتبار النهضة مجرّد «حزب محافظ» (كما هو تعريف حزب «العجالة والتنمية» في تركية) متعلّق بجذوره العربيّة الإسلاميّة، دون تسليط للعامل الديني على أيّ شأن دنيوي عامّة، وسياسي بالمعنى الأدقّ.
زعيم «هيئة تحرير الشام» الماسك لمقاليد السلطة في دمشق، نشأ داعشيّا وانقلب بعد ذلك إلى تنظيم القاعدة التي انشقّ عنها هي الأخرى، ليكون على رأس «كوكتيل» من التنظيمات والتشكيلات والتيارات «الإسلاميّة». لا رابط بين هذه الفسيفساء سوى الرغبة في إسقاط نظام الأسد…
سقط نظام الأسد، فكان من أولى تبعات هذا الزلزال مغادرة أبي محمّد الجولاني المسرح السياسي والاستعاضة عنه بالقائد العام لغرفة التنسيق العسكري، أحمد الشرع. تحوّل استلزم الاستغناء عن العمامة واستبدالها بربطة عنق، مع تجذيب اللحية والتخفيف منها.
في الحالتين التونسيّة كما السوريّة، هنا رغبة أو قرار بعدم اعتماد المواجهة مع الغرب عامّة والولايات المتحدة الأمريكيّة على وجه الخصوص. وجهة نظر ليس فقط مشروعة، بل مطلوبة كذلك. لا أحد يملك ذرّة عقل يمكنه مطالبة فاتحي دمشق بتقصير الصلاة في الجامع الأموي، ومواصلة الزحف من كلّ حدب وصوب نحو بيت المقدس وإطالة الصلاة في المسجد الأقصى…
لكن في المقابل، من الطبيعي بل المشروع إن لم نقل المطلوب، طرح السؤال عن قدرة «لعبة ربطة العنق» في التأثير على الجهات الفاعلة والقادرة على دفع المعادلة في هذا المسار أو ذاك؟
يمكن الجزم أنّ حركة النهضة فشلت فشلا ذريعًا في صرف رأسمال الرمزي الذي أقامته على أساس توافق نسخة «الإسلام السياسي» المعتمد من قبل النهضة في تونس، مع الديمقراطيّة في شكلها الليبرالي السائد في الغرب. بل هي «ما طالت بلح الشام ولا عنب اليمن»، بمعنى أنّها في الآن ذاته، لم تكن «ثوريّة بما يكفي» عند مسك السلطة، لتقوم بتحييد رموز النظام السابق واخرجهم من المسرح السياسي، ممّا أغضب فريقًا غير هيّن ممّن رأوا فيها «ناصر الحقّ» ومن على يديه ستكون «العدالة»…
نامت النهضة في فراش رموز النظام السابق دون استثناء، فقط لتثبت للغرب عامّة والولايات المتحدة بالأخصّ أنّها الانفتاح ذاته، دون أن يشفع لها ذلك قيد أنملة لدى الإدارة الأمريكيّة وتوابعها في الغرب، التي تركت هذه الحركة الإسلاميّة، (رغم التضحيات التي قدمتها) تغادر المشهد السياسي غير مأسوف عليها…
تملك العقول المدبّرة للشأن السياسي في الولايات المتحدة الأمريكيّة يقينًا، في علاقة بالحركات الإسلاميّة أنّ راشد الغنوشي لا يختلف البتّة لا عن الجولاني ولا عن أحمد الشرع. كلاهما انطلق أصوليا، «الجماعة الإسلاميّة» في تونس بالنسبة للأوّل، والقاعدة وقبلها داعش بالنسبة للثاني. بل أكثر من ذلك يتمّ النظر إلى (هذه) «الهجرة» نحو الاعتدال، بريبة تقف وراء عدم رفع العقوبات المسلطة على دمشق. رغم اعتراف الجولاني بصريح العبارة أنّ الشرعيّة القادمة، التي ستقود البلاد، ستنبع من «الصندوق» أيّ الانتخابات بالمعنى الديمقراطي المعتمد شكلا في الغرب، في حين أنّ رأس الدولة القائمة في دمشق راهنًا كان إلى فترة قريبة نسبيّا، يرى بتحكيم الشريعة الإسلاميّة…
إذا كانت الولايات المتحدة امسكت النهضة ولا تزال من «المناطق الحسّاسة»، فهي تمسك النظام السوري بكامله، وبالتالي تأتي لتكون المؤثر الأوّل والأشدّ نفوذًا، سواء بصفة مباشرة أو عن طريق توابعها في المنطقة. نظام فاز بالسلطة لكن على جغرافية ممزقة…
من ذلك يمكن الجزم أنّ الجولاني/الشرع سيكون أكثر ليونة ممّا كان عليه راشد الغنوشي الذي كان يلعب فوق رقعة شطرنج ذات لونين فقط، في حين أن شرق المتوسط يأتي بألوان الطيف جميعها.
الغنوشي لعب وفق قاعدة، أنّ النظام السابق أمامه والغرب وراءه، على خلاف الجولاني/الشرع الذي يلعب على 360 درجة. نظام طارئ في دمشق لم يتبين أمره، ولا يدري من يكون الخصم ومن يكون الحليف. بؤر توتّر أشبه بالقنابل العنقوديّة قابلة للانفجار في اللحظة التي يريدها صاحب الإصبع على الزرّ، سواء في الساحل أو شرق البلاد كما جنوبها، دون اغفال الوجود الأمريكي والصهيوني المباشر، أو رفاق الأمس وأعداء اليوم، أيّ داعش…