هناك قاعدة علميّة في مجال الاقتصاد: بقدر ارتفاع النموّ الاقتصادي في أيّ بلد، بقدر ما يصير قطاع الخدمات الأشدّ جاذبيّة للاستثمارات، حين يفضل المستثمر إنشاء مدينة ألعاب، على صرف ذات المبلغ على مشروع صناعي مهما كان.
أكثر من ذلك، تتراجع القدرة التنافسيّة للقطاع الصناعي، فتصير كبرى الشركات إلى نقل مصانعها إلى دول توفّر يد عاملة رخيصة، أو في حالة عدم وجود نسيج صناعي متطوّر، يكون قرار التوريد من الخارج دون أدنى نيّة للاستثمار في الداخل.
وجب التمييز عند هذا المستوى بين الدول ذات القاعدة الصناعيّة الجيّدة، أين يتوفّر نسيج من المصانع المتكاملة، القادرة على توفير قسم غير هيّن من المنتجات الصناعيّة، مقابل الدول التي عرفت وتعرف نموّا متواصل على مستوى الاقتصاد الكمّي، دون وجود نشاط صناعي حقيقي، من حيث النوعيّة وكمّ الإنتاج.
وجب استثناء ألمانيا قبل الحرب الأكرانيّة، التي كانت تملك نسيجًا صناعيا متميّزا، استطاع اللعب على قدرة المؤسّسات الصناعيّة، وتوفير بضاعة ذات قيمة مضافة محترمة، ممّا يفسّر في الآن ذاته، ارتفاع أسعار منتجاتها الصناعيّة، والرواج الكبير الذي عرفته. عالم الصناعات الألماني يعيش أزمة حاليا، بسبب الارتفاع المشطّ في أسعار الطاقة، وكذلك تراجع الإنتاج وبالتالي الانتاجيّة، ومن ثمّة ارتفاع كبير في كلفة الإنتاج.
تفوّق قطاع الخدمات سواء في دولة ذات قاعدة صناعيّة صلبة، مثل الصين، جعل القيادة السياسيّة للبلاد، تقدم أثناء الدورة العشرين من مؤتمر الحزب الشيوعي (2022) على جملة من الإجراءات، التي يمكن اعتبارها ثوريّة بالمعنى الكامل للكلمة، وعلى رأسها وضع جملة من المعيقات أمام قطاع الخدمات، مقابل دعم القطاع الصناعي ماديّا، ممّا يرفع من قدرته التنافسيّة، وبالتالي يجعله يستعيد مكانته ويحافظ عليها…
لزم لذلك «ضرب» عديد الأسماء الماسكة لكبرى مؤسسّات الخدمات في البلاد، وعلى رأسها صاحب منصّة «علي بابا» للتجارة الالكترونيّة، بل اعتبرت قيادات في الحزب أنّ «سيطرة رجال الأعمال العاملين في مجال الخدمات في البلاد على اقتصاد البلاد، يمثّل تهديدًا استراتيجيّا». هناك من اعتبر أنّ الأمر لا يعدو أن يكون سوى «خطّة أمريكيّة، هدفها السيطرة على مقاليد السلطة من خلالهم (أيّ رجال الأعمال)»…
من ذلك جاء القرار الاستراتيجي بجعل الاقتصاد أو بالأحرى الإبقاء عليه، تحت سلطة القيادة السياسيّة، مع دعم الصادرات الصينيّة في مجال الصناعة بسخاء حاتمي… على اعتبار أنّ البلد يعيش «حربًا اقتصاديّة» بالمعنى الحقيقي للكلمة…
مثل ذلك، ركّزت القيادة الصينيّة المكلّفة بقطاع الصناعات اهتمامها وبالتالي دعمها للشركات المنتجة للسيارات الكهربائيّة. ممّا جعل الولايات المتحدة تقرّر توظيف أداءات على وارداتها لعديد المواد المصنّعة من الصين، وعلى رأسها السيّارات الكهربائيّة، مع تباين داخل المجموعة الأوروبيّة بخصوص هذا الأمر.
عندما نأخذ هذه القراءة ونستنير بها لتحليل واقع الصناعي الجزائري، نجد أنّ فترة الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، عرفت تدميرًا حقيقيا عن علم وقصد وبيّنة، لما لم يتمّ تدميره أثناء «العشريّة السوداء»…
تراجعت خلال هذه الفترة القطاعات من غير المحروقات إلى نسية متدنية جدّا، بل الأخطر من البعد الكمّي أنّ مجال المال والاعمال، صار يتلخّص في «بزنس» توريد المواد الاستهلاكيّة سواء بصفة قانونيّة أو من خلال التهريب، في استثناء لعدد قليل من رجال المال والأعمال الذين استثمروا في قطاعات منتجة…
الرهان الأكبر الذي يقف أمامه الاقتصاد الجزائري يكمن في تأمين توازن بين الانفتاح المطلوب على الاقتصاد العالمي لانعدام الرغبة في التأسيس لاقتصاد منغلق على ذاته، وفي الآن ذاته حماية الاقتصاد الوطني بما يكفي من الإجراءات، حين يستحيل القبول باقتصاد الأبواب المشرّعة على مصراعيها…
درجة هذا التوازن ليست ثابتة، بل هي برسم المتغيّرات العالميّة المتواصلة أوّلاً، وثانيا الإنجازات التي يحقّقها الاقتصاد الجزائري، وعلى رأسها مدى اقبال المستهلك الجزائري على الإنتاج الوطني، بمعنى قدرة هذا المنتوج على تعويض المستورد، ولِمَ لا المرور إلى التصدير وبذلك ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد…
هو في الآن ذاته سباق ضدّ الساعة، سواء على مستوى إرساء قطاع صناعي منتج فعلا وحقيقة، وكذلك أخذ ما وجب من الوقت بغاية تأمين جودة المنتجات بقدر يؤمن السيطرة على السوق الداخليّة وغزو الأسواق الخارجيّة، مقابل التأكيد على أنّ الاستثمار يستوجب أخذ ما يكفي من الوقت للنظر إلى الواقع الجزائري وما يقابله على المستوى الإقليمي كما العالمي، وأيضًا وجوب النظر إلى أيّ انجاز من زاوية التحليل والتمحيص دون الاكتفاء بتبادل شهادات الرضا، التي وجب أن تمثّل الحافز ولا تكون سببا للاسترخاء.
ما يجعل معادلة التصنيع في الجزائر متجاوزة بكثير البعدين الاقتصادي المباشر والاجتماعي الناتج عن ذلك، هو الواقع الداخلي أوّلا حيث لا تزال «جيوب الردّة» بما في ذلك داخل الإدارة الجزائريّة تضع من المعوقات ما يعرقل النموّ المنشود، سواء من باب الدفاع عن مصالح هذه الفئة أو بالأحرى هي «مافيا/مافيات» تريد الحفاظ على دورها الطفيلي الذي ينحصر في تحويل ريع المحروقات إلى منتجات استهلاكيّة… دون أن ننسى أنّ الغريزة الأولى لهذه المافيا/مافيات تكمن في اضعاف الدولة، سواء للاستحواذ على مفاصلها، أو (في الأدنى) جعلها مجرّد شاهد لا يقوى على إنفاذ القوانين.
يعيش الاقتصاد الجزائري حالة حرب حقيقيّة ودليل ذلك الإجراءات والتدابير التي اتخذتها الدولة لمواجهة ظاهرة المضاربة، التي لم تكن تنوي الاثراء فقط من خلال السوق السوداء، بل أكثر من ذلك تركيع الدولة ولِمَ لا اسقاطها…
كذلك تأتي علاقة الجزائر بمحيطها الجغرافي شديدة الأهميّة على المستوى الاقتصادي، حين وجب الاعتراف أنّ قطاع يسيطر التهريب على المبادلات التجاريّة مع دول الجوار، مع العلم أنّ هذا القطاع (أيّ التهريب) شديد الارتباط بعالم الجريمة المنظمة والإرهاب، ومن ثمّة، بقدر ما وجب الاعتراف بوجوب مكافحة هذه الآفة، بقدر ما الإقرار أنّ الجانب الزجري عاجز بمفرده عن الحدّ من هذه الظاهرة. وجب العمل على جبهتين: أوّلا تطوير العلاقات مع دول الجوار وتشجيع الفاعلين في المجال الاقتصادي على تبادل السلع من خلال المعابر الرسميّة. وثانيا رسم خارطة الحاجة في الجزائر وبذلك يذهب الدعم التي تتحمله خزينة الدولة إلى أصحابه حصرًا، وفق سلّم يميّز بين درجات الاحتياج…
تقف الجزائر راهنًا بين استحقاقات كبرى، جميعها يتفوّق على البقيّة من حيث الأهميّة، أوّلها نشوء جيل/طبقة من رجال الأعمال والفاعلين في مجال الاقتصادي، توازي بين الانخراط في المنوال الذي تمّ رسمه، وتحقيق أفضل الأرباح.
نشوء هذه الفئة يتطلّب وقتًا بالتأكيد، لكنّه يتطلّب رسم «خارطة طريق» للمسارات التي وجب أن ينتهجها الاستثمار في الجزائر. خارطة يساهم الجميع في رسمها، ليكون الجميع ملزمًا بتطبيقها…
تقف الجزائر أمام عالم يشهد تغيّرات إن لم نقل انقلابات على المستوى الاقتصادي، خاصّة داخل الولايات المتحدة الأمريكيّة التي تريد، كما عبّر عنه الرئيس دونالد ترمب، استعادة مجدها
الصناعي، بتوظيف أداءات جدّ مرتفعة في بعض الحالات على الواردات من بلدان بعينها. ممّا يعني عودة الإجراءات الحمائيّة، والقطع مع مقولة «عالم اقتصادي مفتوح دون حدود» وأنّ «السوق لا يعدّلها سوى السوق».
أمام هذا الغلق المقصود وما تمارسه دول أخرى من وضع لمعيقات أمام بعض الواردات من بلدان بعينها، مثل ما كان حال شكولاتة «المرجان» الجزائريّة التي تمّ استبعادها من السوق الأوروبيّة لأسباب واهية يكتنفها غموض شديد… ربّما بسبب النجاح التجاري الذي عرفته هذه شكولاتة.