الذين يحلمون أو يرجون أو يتخيّلون، أو ربّما يصلّون لله عزّ وجلّ، وقد وصل الأمر حدّ المناشدة، بأن يعلو هدير محركّات الدبّابات، لتنتصب أمام «مقرّات السيادة» وحول «الإذاعة والتلفزيون»، ليطلع عليها «ضابط» يتلو «البيان الأوّل»، هم جميعًا (يوزّعون الصفات بينهم) ساذج وغبيّ وكذلك أبله وأحمق ودون عقل…
كذلك الذين يحلمون أو يرجون أو يتخيّلون، أنّ «الجيش الوطني الشعبي» صار على شاكلة «الجيوش» في الدول الغربيّة، وفق قواعد هذه الدول، أيّ ذلك الجيش «البعيد عن السياسي»، يكتفي (فقط وحصرًا) بما هو «واجب التنفيذ» مهما كان حال البلاد ومهما تكن الأوامر، هم (كذلك) جميعًا (يوزّعون الصفات بينهم) ساذج وغبيّ وكذلك أبله وأحمق ودون عقل…
لفهم حقيقة الواقع الجزائري، أو بالأحرى حقيقة «الجيش الجزائري»، سواء على مستوى المسار التاريخي أو الواقع الراهن، وجب الرجوع (من باب الأمانة العلميّة والتاريخيّة) إلى نشأة هذا «الجيش» الذي هبط إلى الدنيا ليس فقط «مسيّسًا» بل يتنفّس السياسة ويسبح بين ثناياها، مع التذكير أنّ أحد أهمّ الرهانات (أيّ الصراعات) زمن الثورة، كانت البحث في علاقة (هذا) «الجيش» بما هي «القيادة المدنيّة»، لينتصر «الجناح العسكري» على «الجناح المدني»، وليتأصّل منذ ذلك الحين، ليس فقط «المكانة» التي صارت للعسكر في الجزائر قبل الاستقلال وبعده، بل أساسًا، ذلك «اليقين» (في مرتبة الإيمان) أنّ لا أحد يتخيّل الجزائر (بما في ذلك الزمن الراهن) دون «تأثير قادة الجيش» أو (على الأقلّ) أن تكون السياسة «بعيدةً عن نفوذهم»….
في ستينات القرن الماضي، حين ينقل التلفزيون الرسمي مداولات اللجنة المركزيّة لحزب جبهة التحرير الوطني، أو يقدّم تقريرًا أثناء النشرة الاخباريّة، من الطبيعي ومن العادي، أن يكون العسكر (بملابسهم العسكري) يشكلون ثلث أعضاء المجلس، بل يجلسون «كتلة واحدة»، في طرف المجلس سواء من باب «رسم الصورة» أو «تأكيد النفوذ»…
من الأكيد وما لا يقبل الجدل أنّ القيادات الفاعلة وذات المسؤوليات المباشرة في الجيش الجزائري راهنًا، تأتي أغلبها خريجة الجامعات العسكريّة أو المدنيّة، وبالتالي يمكن الجزم كذلك أنّ «صفّ الثورة» غادر المشهد أو هو بصدد المغادرة، لتتأسّس عقليّة جديدة، تنفي أو هي تبغض «الانقلابات العسكريّة» في شكلها «التقليدي»، وإن حافظت على (ما يمكن أن تسمّيه) «كبرياء العسكر»، أيّ لا شيء يتمّ دون موافقة «المؤسّسّة» أو على الأقلّ استشارتها أو هو الأخذ برأيها…
تأسّست منذ الاستقلال وترسّخت منذ «الحركة التصحيحية» أو «الانقلاب» الذي قاده هوّاري بومدين وصعد به إلى السلطة، «آليات» تشاور داخل الجيش وكذلك «أدوات» تنقل رأي العسكر إلى «القيادة» (الحاكمة). من الأكيد أنّ الجزء الأهمّ من هذه «الأدوات» بقيت ولا تزال بعيدة عن «التقنين» أيّ دون أن تحوّل إلى «مؤسّسة ظاهرة»، لكنّ الجيش في الجزائر، قال ويقول وسيقول دائمًا كلمته، دون تخطّ لحدود «المؤسّسة العسكريّة» وكذلك دون «إحراج المؤسّسة» المدنيّة…
ربّما أو من الأكيد أن تمثّل إقالة/استقالة الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد «لحظة الذروة» لما هو هذا «الرأي» العسكري حيال الوضع في البلاد. ومن الأكيد أنّ «العشريّة السوداء» مثلت «فترة الذروة» لهذا «النفوذ»، لكن مجيء الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة، صاحب جملة «أرفض أن أكون ثلاثة أرباع رئيس» في إشارة إلى «نفوذ المؤسّسة العسكريّة»، مثّلت (بما لا يدع للشكّ) تحوّلا في «شكل العلاقة» ولم يمسّ البتّة، سواء بعلاقة العسكر بالسياسة أو «الحقّ» في إبداء الرأي…
لم يكن «الجيش الجزائري» حاضرًا على المشهد السياسي مثل هذه الأيّام، بل لم يحصل أن ارتقى «الخوف» من «انقلاب عسكري» كما هو الحال. كذلك وعلى الوجه الآخر من العملة، لم يحصل أن بلغت مطالبة الجيش «بالتدخّل» بين من يدعو، وقد كتب رسالة مفتوحة، إلى «انقلاب عسكري»، وبين من «لطّف» كلماته بأن يكون «التدخّل دون انقلاب»…
هذه «الهوجة» يمكن الجزم أنّها، في الآن ذاته، عبارة عن «يأس/آلم» أمام «الواقع السياسي» القائم في الجزائر، حين يمكن الجزم، أنّ «وضعيّة الرئيس بوتفليقة» لا تقدّم الصورة «المثلى» أو الحدّ الأدنى المطلوب من الشخص والرمز والمؤسّسة، وتمثّل كذلك (وهنا الخطورة)، إمّا «يقينًا» بأنّ الجيش ليس «جمهوريّا»، أو هو استبطان لما «وجب» أن يكون عليه الجيش من «قيادة» (مباشرة وعلنيّة) للبلاد ومقدّراتها…
يزيد الأمر تعقيدًا ويكثر الغموض، حين رسّخت «الدولة» في الجزائر دواليب حكمها بعيدًا عن الإعلام وبعيدًا عن الرقباء، ومن ثمّة صار «التخمين» ليس «الرياضة» التي يمارسها الإعلام كما مجمل الطبقة السياسيّة، بل (وهذا الأهمّ) «التقيّة» (الرسميّة) التي يختفي تحتها «محرّك» الدولة ويخفي أسفله كامل «المشهد الفاعل» القائم على «توازنات دقيقة» مجهولة من قبل «العامّة» (بمن فيهم أهل الإعلام والسياسة)، ومعلومة (وهذا الأهمّ) من قبل «أهل العقد والربط» من سياسيين وعسكريين على حدّ السواء…
وجب في الجزائر أو عند الحديث عن الشأن السياسي في الجزائر، خصوصًا عندما يتعلّق الأمر بأعلى منصب في البلاد، التمييز بين «الصورة المدفوعة إلى الواجهة» أيّ محلّ حديث الإعلام وأهل السياسة، على نقيض «الصورة الدفينة» التي تعبّر عن «المطبخ الحقيقي»، حين يمكن الجزم أنّ العسكري الأعلى رتبة والأرفع مقامًا في البلاد، أيّ أحمد قايد صالح، غير معني في شخصه بمنصب الرئيس، لأنّ الرجل لا يملك الوقت الكافي والمجال الضروري لنزع البدلة العسكريّة ومن بعدها القطع أو (على الأقلّ) الابتعاد عن صورة «العسكري» الذي يسيطر (أي ينقلب في رواية أخرى) على «السلطة المدنيّة». كذلك السعيد بوتفليقة (شقيق الرئيس)، ودون المساس بحقّ الرجل الدستوري بالترشّح، في حال توفرت في شخصه الشروط القانونيّة، يبقى ترشّحه مرتبطا بما هو «التوريث» أي صورة مرفوضة في خيال الجزائريين، لما تحيل عليه «الصورة» وليس الشخص بالضرورة، من أنظمة قامت الثورة الجزائريّة وأسّست مشروع دولتها على النقيض منها…
لفهم واقع السياسة في الجزائر من منظور المؤسّسة العسكريّة، وجب العود إلى «واصل بن عطاء» الذي ابتدع «المنزلة بين المنزلتين»، بمعنى أنّ الجيش يستحيل أن يذهب في طريق «الانقلاب» على السلطة المدنيّة، كما أنّ هذا الجيش يحمل رأيا وموقفًا، يفعّله كما فعل في السابق…