لا أحد في ضمن الفضاء العربي أو حتّى في المنافي والشتات، سواء كانت غربة اختيارية أو قسريّة، أو بينهما، ليس له «موقف» أو حتّى «عاطفة» تجاه قناة «الجزيرة»، سواء الحبّ حدّ الوله والتقديس، أو في المقابل الكره والمقت والتدنيس.
لا جدال أنّ «الجزيرة» لم تترك بصمة فقط، بل صنعت وعيا وشكّلت جيلا بكامله، سواء اعترف لها الأنصار بذلك أو أنكر الخصوم الأمر. شكّلت «الجزيرة» عند انطلاقتها ذلك «الأكسيجين» الذي أحسسنا بفوائده وإن كان البعض عاجز عن التعبير عن حاجته لهذا «النفس الجديد». برعت القناة، وسط القحط العربي، وإعلام حكومي جامد وقطاع خاص متراوح بين المسلسلات والتهريج، ونجحت في أنّ تقلب اللفظ [أيّ «الجزيرة»] من تسمية قناة بين لفيف القنوات وجمهرة التلفزيونات، إلى ذلك «الرقم» الذي يستثني غيره.
برعت هذه القناة، على مستوى الشكل، بمستواه التكنولوجي، حين اعتمدت أرقى الأجهزة واستجلبت أفضل الخبراء، كما برعت على مستوى «الشكل الجمالي» حين جاءت الصورة (التلفزيونية) في الآن ذاته، جميلة وكذلك منفردة، ممّا خلق ما يمكن أن نسميه تلك «البصمة البصريّة»، أيّ أنّك ترى عند «الجزيرة» (على مستوى العين) ما لا تراه عند غيرها، وكذلك تعلم أنّها «الجزيرة» دون الحاجة إلى «شارة» القناة الماثلة في ركن الشاشة….
على مستوى «المحتوى/الخطاب» استغلّت «الجزيرة» أفضل استغلال «الشكل» (الوجهين المذكورين)، أيّ التكنولوجيا والجماليّة، لتمرير خطاب «متناسق» أساسه «التوازن» ومن ذلك التأكيد منذ اليوم الأوّل دون كلل أو ملل، على «الرأي والرأي الآخر»، أي علينا أن نفهم (نحن من يشاهد ويتلقّى ويتابع)، أنّ «مركز ثقل» الخط التحريري»، يعمل خلال «التوازن» سواء عند نقل الخبر أو تحليله والتعليق عليه، ومن ثمّة لا «مصلحة للقناة» (لأنّ لكلّ قناة مصلحة جاءت من أجلها)، سوى «الحقيقة، كلّ الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة»….
البحث أو هو «الهوس» (المهني) قاد القناة إلى دعوة الصهاينة وفتحت لهم منبرًا للوصول إلى العقل العربي، وإن كان مَن تعامل مع الصهاينة من صحفيي «الجزيرة» تراوح بين «الحدّ الأدنى» من اللباقة الصحفيّة الضروريّة، أو هو أحيانًا التعامل في «جفاء» واضح وصريح، بل مفضوح أحيانًا…
إضافة إلى الصهاينة، انفتحت «الجزيرة» على «الطيف العربي الممنوع» أو هم «المسكوت عنهم»، إن لم نقل «الوجوه المحروقة» [بالتعبير الدارج في المغرب العربي]، أي من «يمارسون السياسة» [على طريقتهم]، حين لا ترى الأنظمة فيهم سوى «الإجرام» أو هو «الإرهاب»…
سواء أراد الأمير الوالد، أو جاءت على السليقة، تحوّلت «الجزيرة» (في سرعة كبيرة) في الآن ذاته، ذلك «الصاروخ العابر للقارات» وأفضل من ذلك «المخترق للعقول»، وأيضًا تحوّلت إلى «سبب بلاء»، حين نرى أنّ معار قطر السياسيّة، جميعها (منذ نشأة القناة) جاءت «الجزيرة» سببها الأوّل والمباشر أو هي إحدى أسباب هذه «المعارك»، وصولا إلى اشتراط «رباعي الحصار»، اغلاق هذه «القناة المشاكسة»…
استفاقت بقيّة الأنظمة العربيّة، أو بعضها، من أصحاب المال والقدرة الاستثماريّة الضخمة أمام هذا «المارد» إلى أمور ثلاث:
أوّلا: خطورة أن يكون بين يدي «آل ثاني» مثل هذا «السيف المسلّط» على أنظمتهم وخاصّة على عروشهم (بمعنى رقابهم)،
ثانيا: وجوب انشاء قنوات أسوة بما هي «الجزيرة»، من باب «ردّ الصاع صيعان عديدة» أساسً،
ثالثًا: «تشغيل» القناة على شاكلة قناة «الجزيرة» على اعتبارها «الذراع الاعلامي» المرفوع ضدّ الخصوم جميعهم، سواء من باب «الردع» أو «القصاص»، دون أن ننسى «خدمة النظام والترويج له»…
شكّل (ما يسمّى) «الربيع العربي» في أوّله، «تتويجًا» لما كانت «الجزيرة» تنادي به (لغير القطريين) من حريّة وديمقراطيّة، وحقّ «الرأي المخالف» (مهما كان) في الخروج إلى الناس، ومن ثمّة وبكلّ سلاسة وكأنّ الأمر من «صنع الملائكة» شكلت «الجزيرة» ما يمكن الجزم أنّها «الرافعة» لهذه «الثورات» سواء من باب السعي المباشر، وحتّى «المفضوح» [بالمفهوم الإعلامي] لإسقاط الأنظمة، أو مساعدة «طيف الإخوان» في الظهور ضمن صدارة الأحداث، في مصر خاصّة، دون أن ننسى ليبيا وتونس…
سواء قال الناس أو زعموا، أنّ «الجزيرة» صنعت «الربيع العربي» أو قالوا أو زعموا أنّها «أفضل» من اشتغل بمعنى «ركوب الحدث» (الصحفي)، يمكن الجزم دون أدنى حاجة للجدال، أنّ لهذه القناة «يد» في كلّ هذه «الزلازل» التي أصابت المشهد العربي، سواء على مستوى «الاعداد/الاستعداد» قبل 17 ديسمبر في تونس، أو عند مواكبة هذه «الهبّات الشعبيّة»، ومن ثمّة يمكن الجزم أنّ قناة «الجزيرة» مثلت ليس الذراع الأفضل واليد الطولى في يد قطر وحاكم هذه الإمارة، بل أتت «السلاح السرّي» الذي عجز الخصوم عن اسكاته و(الأنكى) عن تقليده.
نجحت «الجزيرة» في مصاحبة «الثورات» التي يمكن أن نطلق عليها توصيف «القصيرة» (أيّ تونس، مصر، ليبيا واليمن)، وتمادت هذه القناة في السياق ذاته وهي تحسب أنّ «الشام» سائرة على الدرب ذاته، أيّ أسابيع معدودات، ويكون على بشّار الأسد أن يختار بين «الهروب» على شاكلة زين العابدين بن علي، أو الاغتيال والسحل مثلما جدّ مع معمّر القذافي. تحوّلت الأسابيع إلى أشهر والأشهر تمدّدت سنوات، وكان على «الجزيرة» أسوة بأعتى المقامرين في أرفع كازينوهات لاس فيغاس، أن يذهب في رهانه أبعد، حين يمكن المراهنة على التقدّم، لكن يستحيل تخيّل (لحظة واحدة) «التراجع إلى الوراء» أو مجرّد الحديث عنه..
ضمن الملفّ السوري، تحوّلت «الجزيرة» من راعية الديمقراطيّة وحامية «حقوق الانسان» والمنتصرة إلى «حقّ الشعوب»، بحكم سقوطها في «المستنقع» من ثنائيّة «الشكل» (المذكورة آنفا) وكذلك «اللعب على مركز الثقل» إلى جهاز تبييض لتنظيم «النصرة» (الإرهابي)، ليتبيّن القارئ العادي قبل الفطن، أنّ تغطية الأحداث في سورية، لم تعد وفق قاعدة «الإعلام» الفاعل (في خدمة خطّ تحريري)، بل «وسيلة إعلام» في خدمة، بل في ركاب «رهانات» الدولة القطريّة، الاقليميّة، وما تريده إمارة تملك ثلاثيّة «النفط والغاز و«الجزيرة») أن تلعب من دور إقليمي، يتجاوز «غريزة الوجود» المهتزّة (منذ التأسيس) لدى كامل الطيف الخليجي، إلى أن تصير «رقمًا صعبًا» أو بالأحرى «الرقم الأصعب» ضمن نظريات رسم خارطة المنطقة وتسطير مستقبل العالم…
منذ «انقلاب الصورة» في سورية، ومن بعدها في العراق، صار همّ الطاقم الإعلامي في القناة، محصورًا (دون غيره) في خدمة «السياسة القطريّة» مع الحفاظ ومن خلال ما سمّيناه «ثنائيّة الشكل» وكذلك «نظريّة مركز الثقل»، لكن العقل السياسي القطري (الإدارة السياسية، بمعنى المخابرات معطوفا عليها وزارة الخارجيّة) التي اعتادت (زمن ما قبل الثورات) أن ترى «الجزيرة» تقول «كن فيكون»، تريد من «الجزيرة» أن تواصل «السحر» ذاته، وهم (المخابرات معطوفا عليها وزارة الخارجيّة) في رفض/عجز عن فهم أنّ تأبيد الأزمة السوريّة، حوّل «كلمة السرّ» القديمة إلى مجرّد ترنيمة من ترنيمات الزمن الضائع.
بلغة كرة القدم، التي استحوذت «الجزيرة» على بطولاتها عبر العالم، يمكن الجزم أنّ «الجزيرة»، بعد أن كانت زمن العزّ أشبه بما هو حال «فريق برشلونة»، تعانق المجد، وتلاحق النجوم، في نفس «هجومي» يسجل الهدف تلوى الهدف في شباك الخصوم، صار همّ «الجزيرة» الآن أشبه بفريق من «بطولة عاديّة» يعاند في شدّة من أجل عدم السقوط إلى الأقسام السفلى، حين صار الهمّ كلّ الهمّ «دفاعيا» عن وجود «الإمارة» من عدمه.
بهرج «الاحتفال بالعيد 21» وما صاحبه من بذخ، ومن خطاب «انتشائي» (مقبول وعادي ومطلوب في مثل هذه المناسبة)، لا يمكن بل يعجز في الآن ذاته، عن اخفاء أو التغافل، عن قراء عديد الأسئلة وبسط عديد الملاحظات، أوّلها، أنّ «الجزيرة» تحوّلت أو هي انهارت من «صانع الحلم» (الجامع) إلى ذراع مباشر، على شاكلة «البرافدا» زمن ستالين و«صوت العرب» زمن عبد الناصر، وإن كانت حافظت على «ثنائيّة الشكل» ولا تزال «تجاهد» (ليس في الفعل مبالغة) للاحتفاظ بما يستر الوجه من «نظريّة مركز الثقل»، لذلك بدّلت «الجزيرة» الشكل البصري، محاولة منها للإيهام بالقدرة على تجديد المحتوى، مع الثبات على «الرسالة»…..
بعد أن انطلقت «الجزيرة» فعلا واعدًا بغد (عربي) أفضل، ينحصر همّها راهنًا في أزمة قطر الوجوديّة، التي لا يمكن لثنائيّة «الشرّ» الملاحق لما هو «الخير» أن يفسرها، بل هي قطر (الإدارة السياسيّة) تدفع ثمنًا طبيعيا لأمرين: عدم قدرة العقل السياسي القطري المخابرات معطوفا عليها وزارة الخارجيّة) على أن يتلبّس براغماتيّة الغرب في التعامل مع الإعلام، فعاد هذا «العقل» عند أوّل أزمة إلى منطق «البرافد/صوت العرب»، وثانيا اعتبار «الجزيرة» سلاحًا دفاعيا، يذود عن الوجود، وإن لزم الأمر التخلّي عمّا بذلت «الجزيرة» سنوات في بنائه، أي «نظريّة مركز الثقل»، حين يمكن فقط تبديل «الشكل» الثنائي في سهولة…