تناقلت وسائل الاعلام بشتّى صروفها، أخبار «المواجهات» في مدينة الجمّ، وواكبت أو هي ذكرت حجم العنف الذي صاحب هذه المواجهات، بين قوّات الأمن من جهة، و«مواطنون»، من الطرف المقابل…
غاص الكلّ (المعلّقون على وسائل الاعلام والمنتديات الاجتماعيّة) بل غرقوا في مناقشة وجاهة الأسباب المذكورة أو مشروعيّة الخروج من أجلها إلى الشارع، وممارسة العنف (الشديد أحيانًا) تجاه «قوّات أمن» تتبع حكومة نشأت عن مجلس تشريعي منتخب بصفة ديمقراطيّة.
تساءل أهل الجمّ عن هذه الحكومة «المنتخبَة» التي لم يجدوا من لدنها مصلحتهم؟
تساءل المشاهدون من مناطق أخرى، كيف لهؤلاء أن يثوروا ضدّ حكومة «منتخبة»؟
لم يكن الحديث عن «شعب» واحد، وعن «الحكومة» ذاتها، سواء في الجمّ أو في الأماكن الأخرى حيث تفجّر هذا «العنف الاجتماعي»، حين لا يمكن لهؤلاء الذين حملوا الحجارة (في أقلّ تقدير) أن يحسّوا أنفسهم تجاه دولة تمثلهم، أو (قد) تقدّم لهم حاجاتهم، أو (قد) تحميهم من كلّ المخاطر التي تهدّدهم.
من ذلك، لا دور للأسباب (وفق هوى هذا وخيال ذاك)، أكثر من أن «تشعل النار» ثمّ يتناساها الناس في غمرة الصراع من أجل نوايا كلّ طرف.
شرطة ومن ورائها حكومة، تصرّ بل وتعتقد أنّها «من يحتكر العنف» والجهة الوحيدة المخوّل لها ممارسته من أجل بسط هذا الأمن وضمانه للمواطنين، في حين أنّ الطرف المقابل يرى أنّ هذه الدولة، كسرت هذا «الاحتكار» ولم تعد لها أي «شرعيّة» في استعماله (ضدّهم أثناء المواجهات).
هذا «التمزّق» بين كلّ «العمق الشعبي» (بحسب الموقع والظرف)، في مقابل «تونس الرسميّة»، يتجاوز أيّ موقع كان وأيّ ظرف يكون، ليصبح كمثل قطرة زيت بدأت تسري في قطعة قماش قطنيّة…
لا حاجة لأيّ استبيان أو عمليّة سبر للآراء، لنتبيّن أنّ أعداد «غير الراضين» في ارتفاع. عدم رضا مأتاه عدم تحصيل «الفوائد» (المرجوّة) من هذه «التحوّلات السياسيّة» التي جدّت في البلاد، أو عدم رضا بمعنى بداية اليأس من هذه «التحوّلات» (ذاتها)…
لا مجال للتهويل أو القول أن كلّ غاضب هو ممارس للعنف بالضرورة، لكن وجب التأكيد أنّ هذا الغضب يمثّل خطوة أو هو اقتراب من «القطيعة» مع السلطة على مستويين:
أوّلا: قطع أو هو اليأس أو «ضعف الثقة» (في أقلّ الحالات تشرذمًا) في ماكينة الدولة، وما هي قدرتها على تأمينه من اساسيات الحياة ومن بعدها «الوعود» التي حملتها الثورة،
ثانيًا: القناعة أو هو «اليقين» بأنّ العنف يمثّل السبيل الأوحد لجلب الاهتمام وجعل الدولة تهتمّ بهم، وتلبّي رغباتهم أو هو الحدّ الأدنى منها…
الأزمة ليست فقط على مستوى «كمّ» هذا الرفض ومدى انتشاره، بل في أنّ العقليّة في توسّع شديد، بمعنى تزايد حدّة «التشاؤم الوطني» وكذلك «عدم الثقة في السياسة والسياسيين»، لتكون المسألة (أو وجب أن تكون) أبعد من النقاشات السفسطائيّة على المنابر الاعلاميّة وأعمق من كلام منمّق لهذا الوزير أو ذاك في هذا المؤتمر أو تلك التظاهرة، بل ليكون السؤال الأهمّ والأكثر الحاحًا على السياسيين والمفكرين والمثقفين وكافّة الطبقة «المسؤولة» سياسيّا وأخلاقيا واعلاميّا:
لماذا يتزايد قرف المواطن من السياسة والسياسيين، ولماذا يأتي منسوب الثقة في انخفاض اكيد؟؟؟
أخطر من الأزمة، أسلوب طرح الأزمة ذاتها، الجميع يطلب من السياسيين ترك المشاغل الحزبيّة الضيّقة والاهتمام بما هي «المسائل الوطنيّة»، في حين يعلم الجميع، بل هو اليقين، أن هذه الشعارات الطوباويّة والخطب الجوفاء والقصائد العصماء، لا ترقى فوق الاستهلاك والاستعمال الحيني.
لم تفهم الطبقة السياسيّة، وهذه مصيبة هذه البلاد، أنّه بالإمكان، بل عين العقل وما تعمل من خلاله الديمقراطيات العاديّة، أن يكون التوازن بين ثلاث:
أوّلا: الهمّ الحزبي الضيّق، أي صراع المرء داخل حزبه أو التشكيلة السياسيّة التي ينتمي إليها من أجل تأمين مكان ومكانة له، تمكّنه من الارتقاء في المراحل الموالية.
ثانيا: الهمّ السياسي العام، بما هو صراع بين الأحزاب من أجل السلطة أو داخل الحكومة أو معها، وعلى المرء حينها أن يوازن بين متطلبات شخصه ومصالح حزبه أو حركته، دون أن ينسى التحالفات الممكنة والتقاطعات القائمة.
ثالثًا: الهمّ الشعبي الأوسع، وهو أن تلبّي «الدولة» الحاجيات اليوميّة للمواطن وتلبي له متطلبات العيش، دون التغاضي عن حاجيات الأجيال المقبلة.
معارك الجمّ، ومواجهات تطاوين، وخروج الناس لقطع الطريق في سليانة، تأتي مختلفة في الشكل ومتباينة في الوسائل، لكنّها تأتي أشبه بأشكال الوقود المختلفة. اختلاف التركيبة والكثافة والوزن النوعي والتركيبة، لا يلغي قابليتها للاشتعال.
بالملخص والمفيد:
البقاء ضمن نظريّة «المؤامرة» أو وجود «جهات وراء الأحداث»، أو الحديث عن «الشرذمة الضالّة»، كلّها قوالب جاهزة تآكلت، بل أثبتت أن تأثيرها عكسي. وجب على «أولي الأمر» النزول إلى الميدان والحديث إلى الناس، وفهم متطلباتهم التي تأتي أولا وأساسًا، تلك الحاجة إلى خطاب واضح وصريح، لكن قابل للتطبيق، ويتجاوز منطق التسويف والوعود دون تنفيذ.
حكومة تقتل ابنائها لاخير فيها
نكبتنا في نخبتنا ربي يهديك يا أستاذنا الجماعة موش لاقين حتى التوازن الذاتي بينو وبين روحو يعني موش عارف آش يحب بالضبط وانت تحكيلو على توازن ثلاثي الابعاد؟ هم يفلمون ونحن بهم شالقون ولكن نائمون أو منومين. والعنف المتبادل وكل يدعي شرعيته انما يؤكد كما بينت في مقالك بصيغة برقية على أزمة الثقة في أبعادها الثلاثة. دعنا نتفائل وننسب هذا الى ارهاصات المسار الثوري الذي لا يزال يسير في طريقه بالسرعة التي هو عليها . المفيد يتقدم او دعنا نقول على الاقل متحرك رغم الاحزان. محبة