لقرون طويلة وعلى مدى الاستعمار الفرنسي، بقي الجنوب التونسي منطقة مهملة لم يعرها الحكّام أدنى أهميّة لذاتها، بل فقط لثرواتها وموقعها الاستراتيجي. تأصّلت من ذلك، بل صارت في حكم الحقيقة (المرّة) لدى السكّان، أنّ «دولة المركز» (أيّ تونس العاصمة) تنظر إليهم في دونيّة، عجزت دولة الاستقلال عن محوها، حين لم تنظر إلى هذا «الجنوب» كما نظرت إلى «جهات أخرى».
السنوات الفارطة (أي منذ 14 جانفي 2011) عمّقت هذه «الفرقة» وأسّست لصورة «جديدة» لهذا الجنوب، صورت تأسّست على ثنائيّة «الأسلمة» وكذلك «التهريب»، ليكون «الإرهاب» ثالثهما، بل «الخلاصة المباشرة» لهذه «النظرة الدونيّة»…
الأحداث العنيفة الكثيرة وانعدام اقتصاد «حقيقي»، جعل المنطقة (الجنوب الشرقي خاصّة) تولّي وجهه شطر التراب الليبي قبل النظر إلى «أبناء وطنها» من باب السعي وراء الرزق، علمًا وأنّ التهريب درجات، بين من خزّن الأموال بالملايين الدنانير، مقابل من لا يجمع رزق أولاده في اليوم.
الأحداث التي تلت الانتخابات الرئاسيّة، جعلت العديد من المحلّلين و(بعض) الخبراء، يذهب حدّ القول، أنّ «الجنوب ينوي الانفصال» أو إنّه «مقبل على الانفصال»…
هذه الحقيقة انطلقت منها (ما يسمّى) داعش حين أرسلت مجموعة ارهابيّة سعيا لاحتلال المدينة بُعيد صلاة الفجر ليوم 7 مارس 2016، ليقينها أنّ «الجماهير العريضة» ستخرج (على بكرة أبيها) تبايع الخليفة البغدادي أميرًا للمؤمنين.
يمكن الجزم أنّ القوّات الارهابيّة (في ذاتها) عاجزة عن احتلال المدينة بالكامل والسيطرة عليها بمفردها، بل كانت مجرّد «شرارة» تترقّب «الهبّة الجماهريّة» (الافتراضيّة)، حين عوّل هذا التنظيم الارهابي على العنف أوّلا وفتح باب المكاسب أمام العامّة لجذبهم.
النقطة الفارقة في الهجوم لم تكن المفاجأة ذاتها، أو عدد القتلى من الإرهابين أو عدد الشهداء من الأسلاك المختلفة أو المواطنين، بل التصرّف العفوي والتلقائي بل الشعبي، لعموم سكّان بن قردان، الذين نسوا في لحظة غبن التاريخ وشتائم بعض السياسيين وحتّى احتقار العديد منهم (أي السياسيين) للجنوب وأهله، وراحوا (سكّان بن قردان) في «عقليّة» تقارب «الجنون» وتلامس «الخيال» يركضون خلف رجال الأمن والحرس والجيش، سواء لإرشادهم أو لتمكينهم من المعلومات…
إنّها النقطة الفاصلة والعلامة الفارقة، قيادات (ما يسمّى) «داعش» كانت تعلم وتدري بل على يقين من أنّ «الجماهير» ستنتفض معها، وتعلن «البيعة»، ممّا يجعل من بن قردان، بعد الرقّة (في سوريّة) والموصل (في العراق) وسرت (في ليبيا)، عاصمة هذا التنظيم في تونس وفي بلاد المغرب العربي الكبير، بل ستكون هذه «الإمارة» مثل نقطة الزيت التي تتوسّع لتشمل ما أمكن لها أن تشمل…
في حركة عفويّة وطيبة طبيعيّة، أسقط سكّان بن قردان «مؤامرة» تتجاوز هذا التنظيم الارهابي لتشمل إعادة صياغة المنطقة وفق «كانتونات» متناحرة، لا ينعم أحد فيها بالهدوء.
في خضم التحوّلات الكبرى، بل المتسارعة، وفي علاقة بعنصر «الارهاب»، يصير من العبث بل هي «السطحيّة» الحديث عن «دولة»، أو بالأحرى «إخضاع المحدّدات» (الكبرى) لمنطق الدولة، أو ربّما حصرها في هذا «المنطق» (أي منطق الدولة ضمن المعنى الجغرافي)، إلاّ أنّه ثبت بما لا يدع للشكّ أو حتّى التفكير، أنّ «الحقيقة» (حقيقة ما يسمّى داعش) التي سَرَتْ في سِرْتْ مثلا عاجزة عن السريان في بن قردان، ليس على المستوى العسكري ومفهوم السيطرة المادي على الجغرافيا والأرض فحسب، لكنّ (وهنا العامل المحدّد)، ضمن القدرة على اخضاع البشر أو ادماجهم في المنظومة الارهابيّة….
إنّها مسألة في غاية البساطة ومنتهى الخطورة، التي تحدّد على أساسها مصير هذه العمليّة الارهابيّة، مسألة «تصوّر الذات» في علاقة مع دوائر الانتماء المتداخلة. صحيح أنّ من أهل الجنوب من ثار منذ زمن الطاغية بن علي، ودفع الناس هناك ثمنًا غاليًا، وصحيح أنّ في لحظات التوتّر الشديد وفورة الغضب (بعد 14 جانفي)، هناك من نطق بكلام «جافّ» بل «مبهم» (أحيانًا)، لكن في اللحظات الفاصلة أو هي مفاصل التاريخ، قرّر هذا الشعب أنّ بوصلته تتجه فقط إلى «شرعيّة السلطة الماسكة للأمر في العاصمة» رغم أنّ هذا «الشمال» لم يكن «من الكرم» كما يحلمون….
عندما تبرد المعركة وتضع أوزارها، وعندما استتباب الأمن (بالكامل) في المدينة، سيهرع «خبراء» (التحاليل) وكذلك «علماء» (الاجتماع) بغية فهم شيء واحد:
ما الذي دعا هذه المجموعة البشريّة في بن قردان، إلى تفضيل سلطة المركز على سلطة (ما يسمّى) داعش، رغم أنّ الثانية أكثر اغراء لمنطقة نشاطها الأوّل والأهمّ بل الجملي ينحصر في «التهريب» وداعش تأتي الأفضل (بكثير) في هذا المجال، من سلطة مركزية، حاصرت التهريب حينًا وعضّت الطرف أحيانًا؟؟؟
يمكن الجزم أنّ التاريخ (في حال وجود مؤرخين يحسنون قراءة الواقع والغوص في غياهب الماضي واستشراف عمق القادم) سيسجّل هذا اليوم (أيّ 7 مارس) علامة مضيئة لأناس لن يذكر التاريخ الأسماء بالتفصيل، لكن سيذكر فضلهم على العباد والبلاد، من بنزرت إلى برج الخضراء…
هنا وجب التفريق بين الوطن و بين سلطاته العليا…
فالوفاء للوطن لا يعني إطلاقا امتثالا لأوامر قادته او موافقة على سياساتهم..
الجنوب او الشمال او الوسط في احتجاجاتهم حول الاوضاع هي رسالات إلى الحاكم إن أفق.. الاصطفاف وراء وراء الجيش في حماية الوطن ليس مزية و ليس مِنّة و ليس مفخرة.. هو اللبن الذي شربناه و الهواء الذي تنفسناه.. و الفكر الداعشي فكر مرفوض من الغالبية و الافراد الذي انساقت فيه.. ليس من ايمانها بجدواه او فوائده انما يأس من السلطة
و ختاما أشكر هذا التحليل الذي راقني كثيرا و عاشت تونس عصية على كل من حاول اذيتها.. عاش الجيش التونسي والمجد للشهداء
تحليل منطقي و موضوعيّ .. أحسنت نصر الدين بنحديد