فسحة خيال :
الرسالة التي وجهها النائب عن حركة النهضة في مجلس نوّاب الشعب الذي قام الرئيس قيس سعيّد بحلّه، إلى الرئيس الأمريكي، بمناسبة القمّة الإفريقيّة الأمريكيّة، لا ينقصها سوى أن يسجّل المؤرخون أنّ «دجو» (كما يدعوه المقرّبون) طالع نصّ الرسالة بإمعان واهتمام ولم يفوّت حرفًا، وأنّ تقاسيم وجهه أبانت عن دهشة شديدة وتعجّب أشدّ، ليفقد «المسكين» وعيه، ويدخل في غيبوبة، إلاّ من كلمات معدودات أسّر بها إلى مستشار الأمن القومي، قالت واشنطن بوست، نقلا عن مصدر رفض ذكر اسمه، أنّ بايدن طالب في غمغمة، باعتماد نصّ الرسالة ضمن المرجعيات الملزمة للقيادات الأمريكيّة القادمة، وأنّ على هديها، وجب إعادة النظر في مجمل السياسة الأمريكيّة عامّة، والخارجيّة على وجه الخصوص، وعلى الأخصّ تجاه العرب والمسلمين.
نائب الرئيس كاملا هاريس، التي استلمت منصب الرئاسة، أعلنت أمام وسائل الإعلام، وهي تجهش بالبكاء، عن تشكيل لجنة من جهابذة الفكر الأمريكي، تتكفّل بتنفيذ وصيّة الرئيس بايدن، شفاه الله.
——————-
مرارة الواقع :
من يطالع رسالة السيّد النائب، بتمعّن يجدها أشبه بما هو «لوم الحبيب» لحبيبه، الذي أعرض واتخذ مواقف منافية لما هو مفترض من «الوصال»، ومن ثمّة شكّل التعجّب ضمن النصّ من فعل الولايات المتّحدة الأمريكيّة ومن تصرّفات رئيسها، صدمة، لأنّها خارج «ما هو مطلوب»، وفق ما كان النائب ماهر مذيوب يأمله من «حبيبه» جوزيف بايدن.
رجوعا إلى أمّهات الشعر العربي في مجال الغزل وعلى الأخصّ «لوم الأحبّة» نجد أنّ الشاعر يعمد، كما يكتب السيّد النائب، إلى جعل «الحبيب» يقف أمام الجفاء الذي يمارسه، ليدرك (من تلقاء نفسه) فداحة ما ارتكب من إعراض وجفاء، فيسارع في هبّة تحمل نفسا رومانسيا رائعا، على وصل ما كان من هجر، وردم الهوةّ التي أقامها.
أكثر من ذلك، قارئ الرسالة يجد إصرارا من النائب ماهر مذيوب على وجوب أن تتقيّد الولايات المتّحدة الأمريكيّة بما هي «الصورة» المرسومة عنها ولها في «مخياله المشرقي» (كما جاء ضمن نصّ الرسالة).
بكلّ اختصار ذنب الولايات المتحدة الأمريكيّة وفق الرسالة، وخطيئة رئيسها أنّ لا البلاد والرئيس، احترم التماثل أو تقيّد (في الحدّ الأدنى) بما تنصّ عليه «الصورة» المرسومة في ذهن هذا النائب.
قد (ونقول قد من باب حسن النيّة) أنّ الرسالة بما فيها تحتاج قراءة «بين السطور» وأنّ البلاغة في النصّ، تحيل القارئ (الفطن) على «انتقاد شديد» قدّمه كاتب الرسالة في شكل «لوم رقيق»، وبالتالي (وهنا النبوغ والتميّز) لم يغادر (سي) ماهر مذيوب، حدود الأخلاق الملزمة وفق ناموس السياسة وأعراف التفاعل الدبلوماسي الرصين، وفي الآن ذاته، رجم (على حدّ قول الراحل محمود درويش) مخاطبة بما أراد من «الحروف السمينة» ليكون أصاب عصافير عديد بربع حجر واحد :
لا هو أساء الأدب، ولا هو قصّر في تبليغ المُراد.
هذا «التكتيك» وضع الولايات المتحدة وجها لوجه أمام «مبادئها» وبالتالي جعلها مخيّرة بين أمرين : إمّا الاعتراف بما هو «الخطأ» ومن ثمّة عليها الإسراع بالتعديل والإصلاح، أو هو الاعتراف بما كان من «جهل»، وبالتالي لا عذر لها وقد أنار معالي النائب ماهر مذيوب بصيرتها، ومن ثمّة وجب على كلّ «عاص» أن يتوب عن غيّه.
هذا «التكتيك» يحيل على استبطان (من قبل النائب) لما هو «الالتزام» الأمريكي الصارم (المفترض) بما يقول أنّها «المبادئ» التي قامت عليها وأقامت عليها «صورتها»، خاصّة منذ نهاية (ما يُسمّى) «الحرب الكونيّة الثانية» وعلى الأخصّ «مبادئ ولسن» التي نادت بتمكين الدول المستعمرة من حريتها.
قارئ الرسالة، يجد اصرارًا «مرضيّا» على «خنق» الولايات المتّحدة ضمن «الصورة الورديّة» التي صنعتها لنفسها، بل والجرأة على تذكيرها بما لاحظ السيّد النائب من «انزياح» مفضوح وتجاوز لجميع «الخطوط الحمراء» التي رسمها «عمّه سام» لذاته، عن طيب خاطر وطواعيّة.
يكفي المرء أن يغوص قليلا، في التراث السياسي الغربي ليلاحظ أنّ «الخطوط الحمراء» التي أثار اجتيازها من قبل بايدن، حفيظة سيادة النائب، تشكّل حدودا بين «العالم المتقدّم» الذي ينتمي إليه بايدن، مقابل «عالم متخلّف» يستوجب عليه الوقوف عند هذه التخوم.
معادلة محسومة منذ زمن الإغريق، مسقط «الديمقراطيّة» (الأمّ)، منبع الديمقراطيات الغربيّة في نسخها البائدة والقائمة، حين تمّ حصرها (حينها) بالرجال دون النساء، والأحرار دون العبيد، وأهل أثينا دون غيرهم من الشعوب. ممّا يعني (زمن الإغريق) أنّ العمل بما هي قواعد الديمقراطيّة (هذه) لا يسري، لا على العبيد أو النساء أو «الأغيار»، لتأتي قاعدة «النبيّ اليهودي ـ الفيلسوف الإغريقي ـ المشرّع الروماني» وترسم أو بالأحرى تحفر بحروف من نار «اللوحَ» الحافظ لمجمل القواعد المؤسّسة لخيارات العالم الغربي، بمختلف فروعه.
بمعنى أخر، يفصل الغرب بين الممارسة الديمقراطيّة في أدقّ تفاصيلها بين من هم معنيين بهذه الديمقراطيّة، مقابل من هو على استعداد لممارسة أقصى درجات العنف تجاههم، بل هي الإبادة الدمويّة، حين يلزم الأمر.
ماهر مذيوب (الشخص والسياسي والنائب) مصاب بما يمكن أنّ نسمّيه «عمى ألوان سياسي» (بمعنى الدلتونيّة) أيّ أنّه قرأ وأمعن التدقيق بأدقّ تفاصيل «الديمقراطيّة الأمريكيّة» وأحرز في ذلك نجاحًا باهرًا، لكنّه فشل فشلا ذريعًا في تبيّن الحدود الفاصلة بين «أهل البيت» (الديمقراطي)، الذين يحقّ لهم التمتّع بمزايا هذه «الديمقراطيّة»، مقابل «الأغيار» الذين لا حقّ لهم البتّة.
تذكر كتب التاريخ الأمريكيّة، أنّ المهاجرين الأوائل الذين قصدوا هذه القارّة، كانوا على متن السفن، يردّدون نصوصا من «العهد الجديد» فيها إصرار على أنّهم يتجهون نحو «أرض كنعان»، ومن ثمّة لا ضرر في إبادة من يقيمون عليها.
ماهر مذيوب لم يفهم أنّ شخصه المحترم، المتمسّك بصفة النائب، ومهما ما يملك من قدرة التذاكي وتجويف الكلام، وإعادة ملئه، لا يختلف على مستوى الصورة وبالتالي الهويّة ومن ثمّة شروط التعامل معه، عمّن أقدم عليه المستوطنون الأوائل على إبادتهم.
هو في ذهن «حبيبه» الرئيس بايدن، من سكّان «كنعان» (المعاصرة)، الذين لا حقّ لهم في «الحريّة» ولا نصيب في هذه «الديمقراطيّة».
فرز ذهني داخل العقل الأمريكي، يعجز أمثال ماهر مذيوب عن فهمه أو الوعي بوجوده، أو على مستوى عقله الباطن يرفض الاعتراف به، لأنّ الاعتراف يضعه أمام أسئلة حارقة وتساؤلات ملزمة، تتجاوز شخصه المحترم، وتتعدّى حدود حزبه النهضة وتفيض لتشمل كامل «الإسلام الإخواني»، ليطفو إلى السطح من جديد، سؤال عن «استراتيجيّة التعامل مع (الكافر) الأمريكي»؟
رجوعًا إلى التاريخ يجعلنا نرى أنّ «تنظيم الإخوان» في بُعده الفكري والسياسي اتّخذ بُعيد اعدام السيّد قطب، قرارًا بمهادنة هذا «الكافر»، بل وركوب موجته، تفاديا لمواجهات «عقيمة» ومن باب ربح الوقت وتوفير الطاقة.
لم يدخل الكائن الاخواني منذ اتخاذ هذا القرار الاستراتيجي في أيّ معركة وجوديّة مع الولايات المتحدة أو الكيان الصهيوني، باستثناء حركة حماس التي مثلت «الحالة المنفردة» ضمن سياق (اخواني) عام، لم يزعجه الوقوف في صفّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة، سواء في أفغانستان زمن الغزو السوفيتي، أو (وهنا الأهميّة) عند اندلاع ما يُسمّى «الربيع العربي» حين ثمّن هذا الطيف دور واشنطن واعتمدوها نصيرًا لهم سواء في تونس أو ليبيا أو مصر ونهاية بالواقع السوري، حين ساهمت واشنطن وملحقاتها (عبر تركية) في تسليح جماعات ذات توجه اخواني معلن وصريح.
اليقين قائم بأنّ الرسالة التي حبّرها النائب ماهر ذويب تتجاوز شخصه المحترم لتشمل وتمثّل (تنظيميا) حركة النهضة، وتعبّر عمّا يختلج في صدور الغالبيّة العظمى من أبناء هذا التيّار، على الأقلّ في الدول الذي أصابها ما يُسمّى الربيع العربي، لتكون القناعة، بأنّ هدف الرسالة ومطلبها والمُراد من ورائها التالي :
«أيّها الرئيس الأمريكي، لماذا انقطعت المراهنة علينا؟؟؟؟»
بعبارة أخرى ولغة مباشرة : «نحن أفضل من يتماثل مع الفكر الأمريكي… على الأقلّ، أفضل من (الانقلابي) قيس سعيّد»
على المستوى السيكولوجي، الرسالة شديدة الخطورة (ضمن معاني الكلمة) حين اليقين قائم أنّ عشرات الرسائل السريّة أو غير المعلنة، تطالب سواء بمواصلة التعويل على النهضة لتكون «الصديق الوفيّ» للولايات المتّحدة الأمريكيّة، أو بلغة أخرى : «النهضة أفضل لواشنطن من قيس سعيّد»، وبالتالي هذا «الدخيل» على السياسة في تونس يمثّل «خطرا على مصلحة الولايات المتّحدة»….
على المستوى الاستراتيجي تمثّل هذه الرسالة أكثر من «سقطة» أخلاقيّة وقصورا مرضيا عن قراءة العقل الأمريكي، الرافض أو العاجز عن قراءة المشهد السياسي من واجهة «الأخلاقيات» التي أطنب حضرة النائب في تعدادها والتذكير بها، علّ «شعرة الأخلاق» تستفيق عند بايدن ويكفّر عمّا ارتكبت دولته من «تجاهل» تجاه حركة النهضة منذ «انقلاب» قيس سعيّد، غير المرفوض بصفة قاطعة من الولايات المتحدة، وإن كانت علاقته مع الولايات المتحدة ليست في «صحفة العسل» كما يقول أهل تونس.
لم تفهم قيادات النهضة وعلى رأسها راشد الغنوشي ذاته، ومن ورائها كامل العقل الاخواني على المدى العربي خاصّة، استحالة الخروج سالمًا لمن حاول «اللعب» مع الولايات المتّحدة الأمريكيّة من داخل سياقتها الفكريّة، بمعنى السعي للبحث عن تقاطعات تحفظ المصالح وفي الآن ذاته تستفيد من العلاقات مع الولايات المتّحدة، لتوسيع مجال «التمكين» (بالمعنى القطبي الصريح).
فهم الإخوان في مصر أنّ الولايات المتحدة، ستحترم حدود العلاقة معهم بعد وصول محمّد مرسي العياط إلى منصب الرئاسة، لكنّ واشنطن استعاضت عنهم بمن انقلب عليهم بمباركة منها.
كذلك مع احترام فارق الحجم، تخيّل راشد الغنوشي أنّه قادر على الاستفادة من «المباركة» الأمريكيّة للبقاء في الحكم في تونس، وفي أقلّها أن تمثّل العلاقة مع واشنطن «واق من الرصاص» (السياسي)، إلاّ أنّ الولايات المتّحدة (كما الحالة المصريّة) رفضت المساعدة وفضلت إلقاء النهضة خارج الحكم.
نصيحة بالمجان إلى «العاشق لأمريكا» ماهر المذيوب :
الولايات المتحدة مثل العاهر الذي لا يزعجها تعدّد العشّاق وأساسًا استبدالهم في منطق استهلاكي بذيء، وبالتالي لا وقت لا ولا عقل لها، ومن ثمّة لا مصلحة لها في الحفاظ على «حب» من أفلس وأصبح في عجز مزمن ودائم عن تقديم ما تطلب.
لذلك أفضل للنائب ماهر مذيوب ومن ورائه راشد الغنوشي، التستّر وعدم فضح علاقة العشق التي جمعتكم بأكبر «بطرونة» على مدى التاريخ، لأنّ «العاقل من ستر نفسه»….
وحدنا نُصغي لما في الروحِ من عبثٍ ومن جدوى
وأمريكا على الأسوارِ تهدي كل طفل لعبةً للموتِ عنقوديَّةً
يا هيروشيما العاشقِ العربي أَمريكا هي الطاعون، والطاعونُ أمريكا