حين نرى مدى الغضب الشديد الذي أبداه (السياسي) محسن مرزوق حيال «تسريبات» (ما يسمّى) «أوراق باناما»، وحين نرى مدى الهدوء الشديد الذي أبداه (المحامي) سمير العبدلي حيال «التسريبات» ذاتها، ندرك ونفهم مدى الفوارق الذي وضعها «النظام الرأسمالي» بين كلّ من البعدين «الأخلاقي» وكذلك «القانوني»، حيث مكّن من أراد، بل هو مكّنه من اللعب (والتلاعب) بين الحدّين.
محسن مرزوق «سياسي» أو هو حامل لمشروع سياسي وكذلك طموح سياسيّ، يرى نفسه أو يراه الناس ضمن «دائرة الأخلاق» (أوّلا وأساسًا)، في حين أنّ سمير العبدليّ «محام» (بالأساس) رغم قوس السياسة الذي فتحه في سرعة وأغلقه في سرعة أشدّ، من باب «إضافة ورقة» إلى رصيده الاعتباري (أمام القانون) حين أصبح «الضرب» بعد 14 جانفي «تحت الحزام» من الأمور العاديّة.
من الأكيد أنّ الجهة التي سرّبت هذا الكمّ الهائل من المعلومات، المسمّاة «أوراق باناما» ليست (ولن تكون أبدًا) ذلك «الفاعل للخير» على طريقة «الشعراء الصعاليك» (في الجاهليّة) أو «روبن هود» في بريطانيا (العظمى سابقًا)، ليكون الفعل (خالصًا) لوجه الله، لا يبغون من ورائه جزاء أو شكورًا…
علينا أن نميّز في جلاء شديد بين ذلك «النفاق الرأسمالي» الذي ينبني على مرجعيّة «بروتستانينيّة» (نسبة إلى المذهب البروتستان Protestants)، القائم على «أخلاق» (مرجعيّة) موغلة في «المثاليّة»، مقابل (أو هو نقيض) عشق معلن ومفضوح للمال والثروة والجاه والسلطة….
من حقّ محسن مرزوق أن يغضب (ضمن هذه الأخلاق) لأنّ «صورة السياسي» (المثاليّة أو لدى العوام والرعاع والدهماء) تأتي أو هي تتأسّس على «صور الملائكة» الذين لا جنس لهم أوّلا، بل لا يأكلون ولا يشربون (مثل عامّة الناس)، ومن ثمّة يخاف محسن مرزوق بل هو الرعب والرُعاب (psychose) أن يصيب مصيره السياسي ذلك «الفيروس» أو (هي) «اللعنة» غير القابلة للعلاج.
من حقّ سمير العبدليّ أن يرى نفسه (ضمن هذه الأخلاق) بمنأى عن «أيّ مساءلة»، حين يكون الفيصل بل المرجع الأوحد الوحيد تلك «القوانين» سواء في تونس (أو في خارجها)، ومن ثمّة يأتي «المحامي» أقرب إلى لاعب كرة القدم، الذي بإمكانه الغشّ وممارسة العنف، بل عليه ممارسة الفعل، لكن دون أن يضبطه قانون «الحكم» أو أن يراه «المراقب»…
من «الحيف الأخلاقي» أو هي «الشماتة السياسيّة» أن نجعل من محسن مرزوق «كبش فداء» أو هو (ذلك) «الشيطان» بين طبقة (من) «الملائكة»، بل من الأكيد وما لا يقبل الجدل، أنّ غيره كثير، ليكون السؤال (المنطقي والأسهل) عمّن لم يفعل أكثر منه عمّن تورّط…
مثل هذه «التسريبات» تأتي فرصة لممارسة أقصى درجات «النفاق» (السياسي)، طبقة سياسيّة وإعلاميّة ولفيف من المجتمع المدني وغير ذلك من المرجعيات الأكاديميّة، تستفيق (فجأة) على صورة «الزوج المخدوع»، الذي يرى أنّ «الشرف الرفيع » لن يسلم حتّى «يُراق على جوانبه الدم»، لتكون المطالب بالقصاص أو هي «معاقبة الجناة» والذهاب أقصى ما يمكن ضمن «طهرانيّة» تكشف النفوس المريضة أكثر ممّا تبيّن «صدق النوايا» أو «صفاء النفوس»….
أبسط العارفين بأبجديات الممارسة الرأسماليّة وكذلك الذين مارسوا السياسية يدركون منذ اليوم الأوّل، بل الدقيقة الأول أو هو النفس الأوّل أنّ «القاعدة» (الأخلاقيّة) الضامنة للنجاح تكمن في «القدرة على مخاتلة القانون» وليس في «الامتثال له»….
سواء جاء محسن مرزوق ذلك «الشيطان» (كما يريد البعض) أو هو «الملاك» (الطاهر) كما يقدّم نفسه، يكون من الغباء والسذاجة وحتّى «النفاق» (السياسي أو الأخلاقي)، تسليط الأضواء عليه وحده، يكفي من «شرب حليب السباع» أو (كما يقول العامّة)، تقلّد «سيف سيدنا علي» (رضي الله عنه) أن يحاسب الأحزاب السياسيّة (جميعها) وكذلك القنوات الفضائيّة (جميعها)، ليجد أن محسن مرزوق والجميع يعوم في الحمّام (ذاته) أو هو «نادي العراة» الذي لا كبير فيه حين تجرّد الجميع من «الملابس» (والأخلاق)…
طالب سنة أولى محاسبة، منذ الدرس الأوّل، كان سيكشف عند مراجعة ميزانيات الأحزاب وكذلك القنوات الفضائيّة، أنّ جميعها يصرف بل يعيش ويتنفّس من «صناديق سوداء»، بل «قاتمة» أكثر من ليل شتاء لا قمر فيه…
ما يصدم هو حجم «النفاق» الذي أسّست له «الرأسماليّة» (العالميّة)، بل أكثر من ذلك، تستعمل هذا النفاق أسلوبًا (على شاكلة الثعبان والأفعى) لتتطهّر من «القديم» الذي أصابه «الاهتراء» وتدفع إلى الواجهة بما يجب من «دماء جديدة» تضمن «الاستمراريّة» وأيضًا «السيرورة» ومن ثمّة «السيطرة» وكذلك «النفوذ»…
إنّها مسرحيّة، أو هي جلسة مفتوحة (وجماعيّة) أمام «طبيب نفساني» يبغي الجميع فيها نفث «السموم التي فيهم» وجعلها في «أجساد الضحايا» الذين جعلتهم «التسريبات» في صورة «الشياطين» (الأخطر على الأخلاق وعلى الوجود)….
جدّت في السابق «تسريبات» (مقصودة)، بل هي ذات أهداف دقيقة، فتلقفت الصحافة «الكرة» لتلعب دور «الضمير» الذي استفاق أو اكتشف «الخلل» فراح يفضح هذا ويشهّر بذاك.
الفساد (عندما وجب أن نتحدّث عن الفساد) يمسّ ويخصّ ويعني المنظومة «الرأسماليّة» بكاملها، ولا يمكن (بل يستحيل) لمن يحمل ذرّة عقل واحدة، أن يصدّق أو حتّى يقبل احتمال أن تكون هذه التسريبات خالصّة لوجه الله وأن تكون وسائل الإعلام تمارس الفضح بحثًا عن «الحقيقة»…
السؤال الذي يمليه الظرف دون تردّد: من الذي سقط، ومتى «التسريب» القادم؟؟؟
آي نعم..الرؤية والمشاهدة والإبصار….