اهتزّت الساحة الإعلاميّة والسياسيّة على وقع «المشاكسة» بين القاضي أحمد الرحموني والوزير ناجي جلّول، سواء لحدّة النقاش أو شراسة موقف كلّ منهما تجاه الأخر، وصولا إلى التنابز بالكلمات «الثقيلة»، ليقف «الجمهور» من الثنائي ومن المعركة، موقف «جمهور كرة القدم» الذي ينصر هذا ويعادي أو حتّى يشتم ويحطّ من قدر ذاك.
جولة على مواقع التواصل الاجتماعي، تثبت بما لا يدع للشكّ، أنّ «الصراع» في حدّ ذاته هو القادر (أفضل من أي «علاقة» أخرى) على جلب الاهتمام وإشعال الحميّة وشحذ النفوس وأساسًا «التعبئة»، هذا يناصر الوزير الذي «دوّخ» القاضي (الخوانجي)، الذي «يبيّض الإرهاب، وذاك فرح مسرور بهذا القاضي الذي «ألجم» الوزير (الوطد) الذي يبرّر «ارهاب الدولة»…
لا حاجة لذكاء شديد ولبصيرة قويّة لنفهم أنّنا أمام حرب صارت مقصودة لذاتها، ومطلوبة لتأجيج الصراع، حين يمكن الجزم بما يلي:
أوّلا: لا نقاط تلاق بين الطرفيّن حول حدّ أدنى من القراءة الموضوعيّة للمشهد السياسي بكلّ تفرّعاته، سواء منها العامّة أو المطروحة للنقاش.
ثانيا: لا قدرة لأيّ طرف على حسم الصراع، سواء في الشارع أو المنابر الاعلاميّة أو حتّى على مدى الواقع السياسي.
ثالثًا: أنّ لكلّ «ملاكم» (على المنبر) من الأنصار والأحبّاء وحتّى المساندين والمساعدين على وسائل التواصل الاجتماعي، ما يدعو للجزم أنّنا أمام نمط من الصراع أقرب إلى «مأساة سيزيف»، الذي كلّما حسب نفسه وصل بالصخرة إلى أعلى الربوة، كلما تدحرجت من جديد. أيّ هذه المعركة بين الرحموني وجلّول، لن تحسم المعادلة، وستأتي معارك أخرى (كثيرة جدّا) تواصل المشوار (على حدّ قول الأغاني الثوريّة).
ممّا يجدّ على القنوات التلفزيونيّة، يمكن الجزم أنّنا أمام «حاجة للصراع» أكثر من «صراعات فكريّة/سياسيّة». نخب تحمل كمّا من العنف الداخلي، بسبب العجز عن تغيير المعادلة السياسيّة في الاتجاه المقصود، ممّا يولّد «حقدًا» (حقيقيّا) يبدو جليّا، بل طافحًا، عندما يستعيض السياسي عن أراء حزبه ونظرته إلى الواقع وما هو «واجب» من تقديم «البديل»، بتعداد أخطاء الطرف المقابل، وسرد سلبياته بل وصولا إلى اعتبار الخطأ البسيط جريمة لا يمكن غفرانها…
لم تعد الأحزاب ولا الشخصيات ولا حتّى من يتمّ تقديمهم في صورة «المحلّل السياسي»، قادرة على قراءة المشهد من باب النقد «الموضوعي»، أي تعداد الحسنات وعدّ السلبيات، ولا على مستوى قراءة الأسباب التي أوصلت إلى هذا الحدّ، وتحليل الوضع، ولا حتّى الخروج بالمبادرات أو تقديم «البديل»…. مطلوب من القاضي أحمد الحمروني أن يصير أشبه بما هو «كبش النطح» في بطحاء سيدي عزّوز، وعلى الوزير والأستاذ الجامعي ناجي جلّول أن يكون «الكبش المقابل»…
هي عقليّة أكثر منها فئة تختلف عن أخرى، بل يمكن الجزم أنّ الجميع لا يذكر الجميع بخير، حين نستثني حالات «التملّق» (الانتخابي) أو «التزلّف» (من أجل منصب)… كلّ يرى نفسه «الطاهر المقدّس» في حين يرى المقابل في صورة «الشيطان المدنّس»…
لم تعد تجذب المتفرجين ولا المستمعين ولا حتّى قراء الصحف والمواقع، أيّ من الحوارات الفكريّة التي تطرح الاشكالات الحقيقيّة من خلال منظور علمي ورؤية موضوعيّة. الأدنى من هروب «العامّة» إلى منابر «فرجة النطيح» (الاعلامي):
أوّلا: صارت (ما يسمّى) «النخب» ترى في هذه «الخرجات على الشاشة» الباب الأوحد، أو على الأقلّ الأفضل ليس لتحسين الصورة الاجتماعيّة ورفع المنسوب السياسي في عمليات سبر الأراء، بل الوسيلة الوحيد والمعبر الأوحد نحو «النجوميّة» أوّلا، ومن ثمّة السير أو الركض حثيثًا نحو «الكرسي السياسي»
ثانيا: صار «الصراع السياسي» (أيّ النطح بالعبارات النابية) الباب الأوحد، أو على الأكثر سيطرة على «النمط التلفزيوني»، بل غابت البرامج السياسيّة ذات الطرح السياسي الرصين أو المقاربات العقلانيّة أو المواقف الموضوعيّة.
من الطبيعي (وفق المطلوب السياسي والمعروض الاقتصادي) أن تلجأ القنوات التلفزيونيّة وكذلك الصحافة إلى ترتيب الكفاءات القادرة على «اشعال المنبر»، أيّ تحويل السياسة (تسيير شؤون الناس) إلى صراع «حيوانات» كما كان الرومان يفعلون في مسارحهم للترفيه واللهو وقضاء الوقت…
سقط السياسيون في هذا الفخّ، بل عجزوا عن الخرج منه للأسباب التالية:
أوّلا: الحاجة سيكولوجيّة في دواخلهم، التي جعلت من هذه الذوات، على مرّ السنين، بفعل القمع وانغلاق الفرص، أو بفعل الانخراط في منظومة بن علي الفاسدة، مشحونة بكمّ كبير جدّا وخطيرًا جدّا من العنف، الذي لا يبحث سوى عمن يفرّجه أو يفجره.
ثانيا: سهولة اللعبة، أيّ مدى «اللذّة» التي يجدها هذا «الكبش» أو ذاك في «المعركة»، حين تنتهي المعركة (في استثناء لحالات نادرة) دون «نتيجة» (واضحة) لتنادي كلّ جهة أنّها «دوّخت» الجهة المنافسة..
ثالثًا: عدم وجود البديل، يجعل أيّ «طرف سياسي» بين أمرين أحلاهما مرّ: إمّا الانزواء دون هذا «التهريج» وترك المجال مفتوحا أمام «المنافس»، وإمّا التخلّي عن أيّ «ضابط أخلاقي» ودخول المعركة من بابها الأوسع…
دون السقوط في «نظريّة المؤامرة»، يمكن الجزم أنّ الجميع سقط في دوّامة أو هو رحى العنف «اللفظ اللفظي» (الديمقراطي) في انتظار المرور (أو العود) إلى «العنف المادي» (الثوري أو الإرهابي)… عندها نغيّر «اللعبة»، لأنّ «أبطال اليوم» لا حاجة لنا بهم