عن وعي ودراية أو جهل وعدم معرفة، حوّلت القنوات التلفزيونية التونسيّة جميعها (في استثناء لبعض برامج التلفزيون العمومي) «الشأن العام» أو هو «الشأن السياسي» إلى «فرجة» بمعنى أنّك (أي المتفرّج) صرت لا تبحث ولا تجد «المعلومة المجرّدة» أو «التحليل الموضوعي»، بل تجد «الموقف الشخصي» للمعلّق، الذي ينخرط ويتأسّس على «الخطّ التحريري» للقناة، وكذلك على مستوى الأسلوب، تجد تعاظم حجم «العاطفة»، حين يكون دور «المحلّل السياسي» بل ينحصر (في القنوات العريقة ذات التراث الطويل)، في ذكر «المعلومة المجرّدة» التي ينبني عليها «التحليل الموضوعي» (بالمفهوم البنيوي المباشر)…
صارت السياسة في القنوات التونسيّة، عبارة عن «فرجة» أو هي جزء من الفرجة، إن تكن السبب المباشر لهذه الفرجة:
أوّلا: حين يتمّ «استهلاك» السياسي من خلال أسئلة تمزج الاستفزاز بالغرابة، أو هي أسئلة تأتي غاية في ذاتها أو تبحث عن الذهاب أبعد من «الشأن السياسي» أيّ مسؤوليّة السياسي الوزاريّة أو الحزبيّة، المباشرة، أو بعيدًا عن «المسألة السياسيّة» المطروحة حينها من قبل الرأي العامّ…
ثانيا: تمكين غير الصحفيين المحترفين والمتمكنين من الشأن السياسي (معرفيّا) من التحدّث على هذه القنوات في الشأن السياسي، مثل أن يدلي فنّان أو راقص بدلوه في الشأن السياسي، على اعتباره «مواطنًا» أو يمثلّ «المواطنين» بتعلّة «الديمقراطيّة» وحريّة التعبير والحق في أن يجد «المواطن» (العادي) ذاته على الشاشة…
ثالثًا: تحوّل المعلّقون إلى «نجوم» بفعل ما يقدّمون من «فرجة»، أوّلا، وثانيًا، تحوّل (هذا) «النجم» من «المعلومة المجرّدة» وكذلك «التعليق الموضوعي» إلى «إصدار الأحكام» القيميّة أو الأخلاقيّة أو حتّى الثوريّة والوطنيّة، أيّ (وهنا خطورة المهمّة) تحوّلوا ـ عن قصد أو عن غير قصد، عن دراية أو غير دراية، وعن معرفة أو غير دراية ـ إلى «جهاز تصنيف»، بل إلى «آلة تقسيم» للمجتمع، بين «الأخيار» يقابلهم (بالضرورة) «الأشرار»، علمًا وأنّ القنوات التونسيّة تعلن بطريقة أو بأخرى أنّها جزء من «موقف» وشركاء في «موقع»، ومن ثمّة ينبني هذا «التصنيف» على هذا «الموقف»….
يمكن الجزم دون أدنى حاجة للبحث أنّ محمّد بوغلاب يأتي من «أفضل» من تحوّل إلى «حاكم» على الأفعال، يقدّم أو هو يصدر «التقييم» القيمي أو الأخلاقي أو الثوري أو الوطني….
مصيبة محمّد بوغلاب ومن معه، أنّهم يريدون «قداسة» (القاضي) وكذلك «طهر» (الصحفي) وأيضًا «براءة» (النبيّ) في الآن ذاته، أي تلك القدرة على اصدار الأحكام وتلك الجرأة على إبداء الرأي وأيضًا ذلك «التقديس» المتخيّل (بفتح الياء) أن يبديه العمق الشعبي أمام هذه الأحكام وهذه الآراء….
تحوّلت الشاشة (بفعل محمّد بوغلاب وأمثاله) إلى «محكمة» تملك قانونها الخاصّ، بل قانونها الفعلي والفاعل، دون الحاجة «الاجرائيّة» لمصادقة الطرف الآخر عليه، لذلك من الطبيعي والموضوعي والمعقول أن يثور هذا الطرف (المقابل) ويعبّر عن رأيه ويقدّم هو الآخر «محاكمة» وفق ما يملك من دراية وبمقتضى ما يرى لنفسه من سلطة.
حين يغيب القاسم المشترك، بين كلّ من الباثّ والمتلقّي، وحين يعتبر الباثّ نفسه سلطة لا تقبل النقاش، يكون طبيعيّا أن يبحث هذا المتلقّي «المغبون» عمّا يعوّض به النقص….
في غياب أخلاق جامعة بين الطرفيّن، أي محمّد بوغلاب وما يقول، ومن خرج ضدّه في القصرين، لا يمكن أن نحاكم هذا بأخلاق ذاك، أو نصطنع بين الطرفين «أخلاقا وسطى» أو نبحث عن «أخلاق أخرى»…
محمّد بوغلاّب يرى أنّه القاضي والصحفي والنبيّ، ومن ضدّه ينفون عنه هذه الصفات وقد حوّلوها إلى نقيضها أو هم عكسوها من الإيجاب الذي يتباهى به الصحفي إلى سلبي يصفونه به، مع انفجار اللعبة بين السباب المعلن والسبّ الضمني، حين لا أخلاق تجمع الطرفيّن….
على عكس ما يرى العامّة وما يعتقد الجاهلون بأبسط قوانين (السوق) التلفزيونيّة، لم يتضرّر بوغلاب، بل استفاد، استفادة كبرى من هذا السباب، حين يعتقد المشاهدون (الذين يكرهونه) أنّه يشاهدون للمعرفة، في حين أنهم يتأثرون زمن الفرجة، وهذا ما تطلبه إدارة القناة وأيّ جهة تنتج برنامجًا تلفزيونيّا…
هي معركة بالمراسلة وفرجة صنعت فرجة أكبر، بل فرجة تزيد من الصدى وتوسّع من الانتشار، ومن ثمّة غبيّ وساذج وأبله، من يعتبر أنّ مجرّد سبّ صحفي في الطريق العام أو عبر صفحات التواصل الاجتماعي كفيل بالتقليل من نسبة المشاهدة، بل لا يعدو أن يكون هذا «الشتم» سوى تفريج عن «الكبت» أوّلا، وثانيا، مساعدة (غير مقصودة) للصحفي وللبرنامج وللقناة…
نحن فعلا أمام حال من عدم التوازن الذي لا يمكن (وهنا السؤال) إلى الاستقرار، بل إلى الانخرام المتزايد، سوى لحالة الاحتقان العام للجهة التي ترى نفسها «مغبونة» أو (وهنا الخطر) ارتفاع حمّى «الأحكام» التي تأتي أوّلا ردّا على «التهجّم» وثانيا تبحث عن «تثمين» هذه «المعركة» وثالثًا جرّ اللعبة إلى نوع من «التصعيد» الذي يؤمّن «الفرجة» دون أن يغدر بكرامة الصحفي أو البرنامج أو القناة…
من الأكيد أنّ محمّد بوغلاب لا يمثّل طائرًا خارج السرب، ولا يأتي شجرة تغطّي الغابة، بل وجب الحديث عن زمن «دكتاتوريّة الصورة» التي تنادي وتستعجل «دكتاتوريّة الشارع»، حين عجز هذا «الشارع» (الثوري) عن انجازه «مشروعه الإعلامي»، لأنّ بوغلاب كما غيره، لا يمكنه استدراك «المدى الثوري» سوى من خلال «سلبيات (هذا) الشارع»، لذلك نحن أمام معركة فوق صفيح ساخن أو هي معركة فوق منحدر، ليكون السؤال:
أيّ دور للصحفي (بوغلاب أو غيره) بعد «العنف» (الثوري) القادم، لأنّ هذا «العنف» لن يصارع الإعلام بسلاح الإعلام (كما يفعل الآن) لأنّها حرب دون كيشوت في زمن «الطحين» (الثوري) الفائض…
مع كل اسف الإعلام التونسي في أغلبه اعلام مأجور و مؤدلج و غير مستقل و هذا ما جعله سببا في تجهيل العامّة لسنوات و عقود من قبل الثورة الى يومنا هذا , هو لم يتعلم من الثورة شيئا بقدر ما تعلم الإستعلاء على الشعب و على الحقيقة و الموضوعية و قد ساهم الشعب بدوره في ذلك عندما لم يقم بتثوير الاعلام اولا حتى تكتمل ثورته و يجد ما ينطق باسمه لقد اصبحنا نشاهد حصص و بلاتوات سياسية و غيرها يلعب فيها المنشط دوره و دور القاضي معا , و احيانا دور الشعب ولا يدري عن الشعب شيئا او يدري و يتنكّر عن قصد …محمد بوغلاب مثال للصحفي المتملّق المأجور الذي يدافع عن أسياده في اغلب المناسبات ولا يعرف عن الموضوعية و الضمير الصحفي شيئا و من الطبيعي ان نجد من يدافع عنه ينتهج معه نفس النهج امثال مريم بالقاضي او لطفي لعماري او غيرهم من متملّقي الصحافة …يا سيدي اذا اردنا ان نبني تونس الثورة لابد للشعب من سند قوي وهو الاعلام