يمكن الجزم دون أدنى نقاش، أنّ تونس، منذ تأسيس الدولة الحفصيّة (النواة الأولى للدولة القطريّة)، لم تعرف سوى قلة قليلة جدّا أو فئة شديدة الندرة، ممّن يمكن القول أنّهم كانوا «وزراء» على المعنى العلمي الدقيق. الألاف ممّن تداولوا على الوزارات في مختلف العهود والحكومات، لم يتجاوز دورهم وظيفة «المتصرّف» الموكول له تنفيذ «الأوامر» [العليّة]، ومن ثمّة تكون العلاقة عموديّة من أعلى إلى أسفل وفق مبدأ «الأمر»، وعكس ذلك على مستوى «ردّ الخبر» وبذل كلّ دلائل «الطاعة» وكلّ ما يؤكّد التمثّل التام والشامل بما هي «الذات الحاكمة».
إلى حين انتصاب (ما يسمّى) «الحماية» لم يكن «ظاهر» الدولة يختلف عن «باطنها»، لكن «طفرة» الدولة الحديثة وتنزيل «الديمقراطيّة» وتوابعها ضمن أبجديات «الخطاب السياسي»، أملى علاقة جديدة ومن ثمّة «أدوات عمل» أخرى»، تحاول ولا تزال تسعى منذ الاستقلال الداخلي سنة 1955 إلى «تسويق» دولة «ديمقراطيّة» (في الظاهر) مقابل أخرى «اقطاعيّة» في (في الباطن).
«عاوْنُونا بالسكات […….]»، هذه الفقرة التي تقيأها وزير الماليّة بالنيابة محمد الفاضل عبد الكافي في وجه من هم في الأصل «نوّاب الشعب»، أصحاب «السلطة التشريعيّة» افتراضًا، وفق قواعد الدولة «الديمقراطيّة»، لكن على أرض الواقع وبحكم الممارسة الممارسة لا يتعدّى دورهم أو (بالأحرى) غير مطلوب منهم سوى أن يكونوا «جزءا من الزينة» وفق قواعد الدولة «الاقطاعيّة»، تلخّص مشهد الانفصام وتختزل صورة التناقض بين «دولتين» تتعايشان في جسد واحد. الرجل جزء أو هو «قيادي» من القيادات الماليّة الفاعلة والماسكة لحنفيّة السيولة، أيّ «الأكسيجين» الذي به تحيا البلاد (أو اقتصادها)…
الفقرة جاءت (على مستوى «الصرف») في «لغة النصيحة»، لكنّها (على مستوى «النحو») في «لهجة الأمر»، بل هي «التهديد»، إن لم يكن «الابتزاز»، الذي ليس فقط يذكّر بقواعد «اللعبة» (الباطنة)، بل يؤكّد على أنّ البلد مقبل على «الإفلاس»، ومن ذمّة وجب، على «نوّاب الشعب» قبل الشعب الكريم (ذاته) «الطواف» بمعبد المال (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي) ممثلين في صورتهم على الأرض (التونسيّة)، أيّ «معالي الوزير» وتوابعه.
تشهد البلاد أو هي مقبلة منذ 14 جانفي على نمط جديد من العلاقة بين «الدولة الاقطاعيّة/العميقة/المتجذرة» مقابل «الدولة الديمقراطية/الظاهرة/الطارئة»، تكون العلاقة فيها أكثر عموديّة [أيّ أوامر صريحة مقابل تنفيذ دقيق]، في حين يكون دور «مجلس نوّاب الشعب»، بمعيّة كامل «طاقم الزينة» تأمين «الديكور» (المسرحي) لمثل هذا «الطقس» السياسي…
أخطر من قولة محمّد الفاضل عبد الكافي التي ذهبت وستبقى مثلا، عدم المبالاة أو هو استبطان مجلس نوّاب الشعب لكثير من «الهدوء» [الانكليزي]، أو هي «الدونيّة» وفق المعجم الأخلاقي في المجتمعات الشرقيّة، حين لم يصدر [إلى حدّ الساعة] ذلك «البيان الناري/الثوري» الذي يحلم به النوّاب في عمق كرامتهم، حين الذي سالت الدماء على جوانب شرفهم…
تونس مقبلة على مرحلة جديدة ضبابيّة وأفق غير معلوم التفاصيل. «جمهوريّة» [يقال] «ثانية» جاءت بها [ما صدّق العامّة أنّها] «ثورة»، مطلوب منها ليس فقط التنازل عن شعارها الأكبر، أيّ «شغل، حريّة، كرامة وطنيّة»، بل التأسيس «ديمقراطيّا» (مع إصرار شديد وإلحاح على هذا اللفظ) لدولة يشكّل «الفازلين» شعارها الأوحد والمادة الوحيدة المدعومة (بشدّة)، أيّ ما يساعد العوام والرعيّة وخصوصًا «نوّاب الشعب»، على «ابتلاع» علقم القرارات الماليّة العويصة، التي جاءت صراحة وتلميحًا ضمن تهديدات هذا «العرّاف»…
الفقرة ذاتها، من زاوية العلوم السياسيّة، تجعل الناس والنواب والعباد، وحتّى الكائنات الحيوانيّة الأخرى، ضمن «خيار» الديمقراطيّة، لأنّ الديمقراطيّة خيار أو لا تكون، قائم بين «عبوديّة» المال العالمي ممثلا في صورته على أرض تونس، أو مقابلها بل وبديلها «الفوضى»، بل هي دولة ينهش الكلّ لحم الكلّ…
بلغة أخرى «خطبة» عبد الكافي عادت بالمشهد إلى «منطق بن علي» بمفردات جديدة، أيّ «خيار» ديمقراطي [دائمًا وأبدًا] بين الفوضى من ناحية وما هي مخاطرها، مقابل «العبوديّة» وما تؤمّن من «أمن وأمان»…
محمّد الفاضل عبد الكافي، مع الاحترام للشخص المجرّد والقيمة العلميّة والمنصب السيادي وكذلك (وأساسًا) المكانة الحقيقيّة ضمن أخطبوط المال (الحلال والفاسد) في البلاد، لا يمثّل سوى «بيدقا» حوّله الإعلام أو علينا أن نراه بل ونصدّق أنّه «النبيّ» المنقذ من «الإفلاس»، أيّ (بلغة أخرى) من سيؤمّن أو هو من سيأتينا بما هي «المعجزة» أيّ توفير الأجور في مواعيدها ختام كلّ شهر، مقابل أن نقبل (فقط لا غير) بثلاثيّة صندوق النقد الدولي والبنك العالمي: أيّ قطع دابر التعويض والذهاب إلى «منطق السوق» أوّلا، وثانيا التفريط للخواص في قطاعات التعليم والصحّة والثقافة خاصّة، وثالثًا إنزال العملة إلى أحطّ درجة رغبة في تشجيع التصدير وجلب العملات الصعبة [التي ستصبح مستحيلة] ممّا يؤمّن (حسابيّا) خلاص ديون البلاد…
على بعد ساعات من هذه «الخطبة اللقيطة» التي فاقت ما هدّد به زياد بن أبيه مرّة، اجتمع فتية مغرورون (جماعة مانيش مسامح)، يحملون نقيض ما فكّر فيه عبد الكافي، أيّ طوباويّة مفرطة وسذاجة مبالغ فيها وما هو الحلم أو الحاجة السيكولوجية إلى «ملحمة» ثورة جديدة، أو «الثورة» من جديد.
لا شكّ ولا اختلاف، ومن منطوق عقلاني، هؤلاء الشباب لا يتجاوزون ولن يتجاوزوا دور «الفلكلور الثوري»، ذلك ما هو مسموح به (ديمقراطيّا) وما هو هامش الحاجة (الإقطاعية) ضمن منطق المزايدة وعراك الشقوق. ذلك هو الخطر وتلك هي المصيبة، لأنّ عبد الكافي ومن معه، على شاكلة «تاجر البندقيّة» يحسنون قراءة الواقع (المالي) جيّدا، لكن دون بصر (بل هو العمى المطبق) أمام التاريخ (خاصّة القريب) بدروسه وعبره.
هي دورة تاريخيّة جديدة، تتكثّف وتتسارع، لتنطلق يومًا ما «ثورة الفازلين»، لأنّ «الياسمين» صار فاقد للصلوحيّة…