يُقسم أهل الصيد والمغرمون به ومن مارسوه عن هواية وعشق لعشرات السنين، أن الخنازير البرية عندما تتأكد من أنها محاصرة بالكامل من قبل الصيادين وأن فوهات البنادق مصوبة نحوها والأصابع على الزناد تترّقب في شوق شديد لحظة اطلاق النار، تبحث هذه الحيوانات المحاصرة عن الذئاب أو عن ذئب واحد، لأن هذه الأخيرة هي الاقدر على إيجاد منفذ من هذا الحصار، لذكائها وفطنتها وما تملك من غريزة البقاء… هذا بحسب الشهود ومن عاينوا مثل هذه الأمور عديد المرّات، وأقسموا على ذلك بأغلظ الأيمان وأوكدها…
كذلك هو عالم السياسة بما فيه من محاصرة وسعي لصيد المنافسين بل القضاء عليهم واستئصالهم بأفظع ممّا هو قائم في عالم الحيوانات وما يجري بين الوحوش، يقع أن يتحوّل الصيّاد بل الرأس والقائد والزعيم، ممّا هو فيه من سيطرة وسطوة وقدرة على كبح جموح المناوئين والطامعين والمنافسين، يتحوّل إلى فريسة يتصيّدها رأس أخر وقائد أخر وزعيم أخر، ويحدث بل من المؤكد وفق منطق السياسية، أنّ تتحوّل جيوش المادحين والحاشية ومن كانوا يطمعون في مصافحة أو ابتسامة من هذا الرأس والقائد والزعيم، تتحوّل إلى كلاب صيد، تتنافس بل تتصارع في نهش مؤخرة من انحدر من سدّة الحكم إلى درك الفرائس…
بين العالمين (البشري والحيواني) تشابه غريب بل هو تطابق مثير. هناك من الذئاب البشرية من هي الاقدر من غيرها على فهم الواقع السياسي وقراءة اعماقه، بل الغوص فيه ومن ثمة ادراك خبايا خباياه، ليكون قرار استباق الاحداث والاستعداد بل هي الاستفادة القصوى من المتغيرات. ضمن هذا السياق فقط يمكن فهم استقالة بعض النواب من الكتلة الموالية لنجل الرئيس حافظ قائد السبسي والانتقال الى الكتلة الداعمة لسيد القصبة والطامع/الطامح في عرش قرطاج (سي) يوسف الشاهد.
وجب ان نضع المنطوق السياسي جانبا لهؤلاء «المنشقين» وما جادت به قراحهم او قريحة من يحبّر لهم التصريحات، عن «حبّ الوطن» وكذلك «المصلحة العليا» للبلاد. هم «ذئاب سياسة» فهموا موازين القوى القائمة والمتغيرات القادمة، فأرادوا (بل عملوا) ان يكونوا أقرب (بل الأقرب) إلى عين السلطة وحنفية المصالح لينالوا نصيب الأسد (بل أسود الدنيا مجتمعة) وإن استطاعوا انفردوا بما هي «الوليمة» أو هم تحوّلوا إلى سدنتها يوزعون تحت أوامر «القائد» [مع تأجيل التنفيذ] صاحب الحظوة العليا جناب المبجّل (سي) يوسف الشاهد…
هو قانون السياسة القائمة على قانون الطبيعة من ركوب هذا عند ترجّل ذاك، سواء خصّ الأمر أرقى الديمقراطيات أو أرذل الطغاة، لكن معطوف في تونس [كما في شبيهاتها] على «قانون الغاب» الذي لا يرحم الضعفاء ولا يؤجل الصراع ما دام في الأمر «فراغًا» سياسيّا يترقّب من يحتلّه أو يكون ضحيّة مَنْ مِنَ الخصوم كان الأسبق.
بصريح العبارة وباختصار شديد، نحن بصدد مشاهد الحلقات الأخيرة من سيطرة الباجي وسطوته على جانب غير هام من المشهد السياسي التونسي، ضمن نمط حكم تأسّس عام 1955 عند امضاء وثيقة الاستقلال الداخلي، لتكون مغادرة جيل الباجي ومن معه، وليس مجرّد رجل تسعيني يترك كرسي قرطاج لشاب نشط يتّقد حيويّة.
ما يجب قوله ودون الحاجة إلى دلائل كثيرة، أنّ المعركة لا تعتمد مهارات [سياسيّة] فرديّة، وإلاّ كان الفوز للباجي على يوسف الشاهد بالضربة القاضية/القاتلة منذ اللحظات الأولى، وكذلك تأتي موازيق القوى بين الطرفين أوسع من المجال التونسي المباشر، حين جاء «الخطيب» يوسف الشاهد يطلب يد عروسه [تونس] مسنودا ومدعوما بوجاهات أجنبيّة، لمّحت وصرّحت وقالت ورفعت الصوت وصرخت، بل أمرت في عنف، أو هي مارست الابتزاز العلني والرخيص [من منظور الأخلاق الحميدة] لكي تفتح العروس قلبها، وتسلم نفسها عن طواعيّة إلى هذا «العريس» عوضًا أن يبدو الأمر اغتصابا كما كان الأمر ذات 7 نوفمبر 1987…
جوقة (سي) يوسف الشاهد ممّن يمدحون عن عطاء وسخاء منه أو من دوائره، وكذلك بعض السذج، يرون في هذا «الخطيب» صفات، تكاد تبلغ مرتبة «النبوءة»، أيّ أنّ الرجل [بالتعبير التونسي] «صنع نفسه» (من عدم!!!)، ومن ثمّة هو الأولى والأشد أهليّة للزواج بالعروس التي لا يجوز لغيره خطبتها.
قانون الطبيعة السياسيّة في تونس لا يخضع لعوامل «طبيعيّة»، بل نحن أمام «مخابر» (مخابرات) تنتج صيصانا يتمّ تسمينها كما هو حال «جيش التكنوقراط» [الذي منهم (سي) يوسف] ممّن أطلوا بعد 14 جانفي من عدم، وقد أهلهم المدعوّ حكيم القروي [أو أهّل العدد الأكبر منهم] ليحتلوا سدّة الحكم ويصيروا سادة البلاد والعباد [أو هكذا تمّ التخطيط لهم]…
لجوء السبسي الابن إلى عدم التصعيد بل المهادنة وإظهار الودّ والمحبّة الفائضة تجاه (سي) يوسف، تعني أنّ الباجي الأب ومن معه من أهل بيته فهموا أنّ تيّار التغيير قادم على حساب رئيس الدولة الحالي وحساب ابنه ومن كان «غبيّا» من الذئاب المحيطة به. لذلك من المنتظر أن تتمّ مناقشة [أو هي بصدد القيام] كلّ ما له علاقة بشروط التسليم/التسلّم بين فريق السبسي وفريق الشاهد. أوّل هذا «الانتقال» التسليم بالهزيمة علنًا وصراحة وبفصيح العبارة، وقد مهدّ حافظ للأمر، ليس من باب الذكاء وفهم لأصول اللعبة، بل لأنّ (سي) يوسف يملك من الممرّنين الأجانب من هو قادر على اللعب خلف الستار في ملفات فساد، لا مصلحة للباجي ومن معه في خروجها.
على الإعلام التونسي وسائر الطبقة السياسيّة أن تستعدّ في الأشهر القادمة لأشبه ما كان بعد 7 نوفمبر 1987 من ثقة في (سي) يوسف، بل هي إمضاء الصكوك له على بياض. وحدها النهضة قادرة على المناورة أفضل من غيرها والمقايضة في ظروف أفضل، فقط لأنّها تملك قدرة على افساد لذّة الفوز الساحق الذي يحلم به (سي) يوسف…
على التونسيين أن يجولوا بأبصارهم على العالم، حين لا يزال يفصل بلدهم عن الرئاسيات ما يقارب العام، وأيّ تغيير راديكالي في موازين القوى على مستوى العالم، قادر على جعل الجهة «المشرفة» على (سي) يوسف تغيّر منطقها، ليكون شعار تونس جميعها: «ما بعد بعد إدلب»…
تخيّوا فقط من باب الخيال: ما هو حال أوروبا، في حال استطاع بضع آلاف من الارهابيين الخلاص من الطوق المضروب على إدلب والانتشار [لا قدّر الله طبعا] في أوروبا… أو [لا قدّر الله ثانية] تمّ ترحيلهم [ضمن صفقة] إلى ليبيا ومنطقة الساحل والصحراء…