كأنّ الطبقة السياسيّة برمّتها تجاوزت ما هي استحقاقات «حقيقيّة»، تلك التي طرحتها الشعارات المرفوعة بين 17 ديسمبر و14 جانفي، وأصبحت لا تجد «شغلا» سوى التنظير لوجوب سقوط هذه الحكومة أو إقالة هذا الوزير.
ذلك من علامات التخلّف الفكري والانحطاط الذهني، كأنّ «سقوط/إسقاط» حكومة الحبيب الصيد تحوّل إلى «الفتح» (المبارك) الذي سيملأ البلاد «خيرًا» بعد سريان «الظلم والفساد»…
معادلات مغلوطة لكنّها غالبة على المشهدين السياسي والإعلامي من ناحية، في تغييب كامل ومقصود، بل متعمّد للإشكالات (الطبيعيّة) التي طرحها المتظاهرون (في عنف أحيانًا)، أيّ سؤال التنمية والتشغيل ممّا يطرح معادلة العلاقة بين «منوال التنمية» مقابل «الفرحة الحياة»…
من بين الأسماء المتداولة أو المتروكة «في الخفاء» (لرئاسة الحكومة)، لا أحد قادر على أن يكون «البطل» (المنتظر)، القادر على قلب المعادلة وتحريك السواكن، وطرح المشاكل كما هي ومصارحة الشعب بما يجب، ليجعل البلاد تضع «رجلها» (على الأقلّ) على أوّل خطوة من مسار التنمية والعدالة الاجتماعيّة والتوزيع العادل للثورة، والمساواة أمام الفرص…
هي حرب أشبه بما هو التاريخ العربي، حين جاء جمهرة من «أرض السواد» (أي العراق راهنًا) إلى المدينة المنوّرة زمن الفتنة الكبرى، يسألون عن عبد الله بن عمر بن الخطاب (رضي الله عنهما)، يسألونه إن كان «دم البراغيث» يبطل الوضوء أم غير موجب له؟؟؟
سؤال فقهي على هامش الرهانات الكبرى بل الألغام المزروعة أمام هذه البلاد وعبادها، حين يمكن الجزم أنّ الشباب الذي خرج (مهما تكن الجهة التي حركته) من أجل الشغل والتنمية والحق في التمتّع بفرحة الحياة، هو شباب سيعاود النزول في أعداد أكبر وعنف أكبر وإصرار أكبر على نيل حقوقه من حكومة عاجزة عن تحقيق المُراد، ممّا يعني (وهنا المصيبة) أن يتحوّل العنف من «وسيلة» (وإن كانت مرفوضة» إلى مطلب في ذاته والشماتة غاية في ذاتها، وتحطيم كلّ شيء أسلوب للتعبير.
أوْلى من البحث في سقوط حكومة الحبيب الصيد أو بقائها، سواء على حالها أو مع تعديلات، أو كذلك البحث عن «أسماء» (أخرى)، أوْلى من ذلك، أن تفهم الطبقة السياسيّة بأكملها، أنّها على «كفّ عفريت» (حقّا)، حين تأتي الفوارق (الحقيقية أو المزعومة) بين كلّ من يتجاذبون الصراع أو يتظاهرون بذلك، من توافه الأمور (أيّ شديدة التفاهة)، ممّا يعني أنّ من خرج للمطالبة في عنف لن ينظر إلى (ذلك) «التوافق) بين «الشيخين» (مثلاً) بتلك «العين الكبيرة» (بالمعنى الدارج في تونس)…
الأحزاب التي ترى نفسها «كبيرة» وكذلك «فاعلة» على مستوى «السوق السياسيّة» مجبرة بين أمرين شديدي الخطورة:
أولا: الوقوف في صفّ «الشرعيّة» والسعي (كما فعلت النهضة) أن تصدر «خطابًا» (متوازنًا)، لكن دون الوقوف الفعلي والفاعلي في صفّ الشارع.
ثانيا: تبنّي مطالب الشارع أو الوقوف وراءها، ومن ثمّة (ربّما) استعمالها وأساسًا تأجيجها والدفع بها، بغية تحصيل بالشارع موقعًا وتسجيل موقفًا، يكون أو هو «ورقة تفاوض» ضمن المسار السياسي العام.
في هذه الحالة كما تلك، سواء «ترك المسافة» أو «الانغماس» (بالكامل)، تكون النتيجة حفر مزيد من الفرقة بين «الطبقة السياسيّة» (من جهة) مقابل «عمق شبابي» كافر بالطبقة السياسيّة برمّتها، مع اليقين بتحوّل «عنف الشارع» من «ورقة تفاوض» إلى «مناخ عام» أو هو «الملعب المفضل» (أو الأوحد) لتصفية «الخلافات السياسيّة»…
حين نبغي تلخيص المشهد العام الماثل أمامنا، نرى طبقة سياسيّة، يجلس في وسطها «ائتلاف حكومي» يفتخر بهذه «الديمقراطيّة» ويفاخر بما هو «الدستور» ويتباهى بهذا «الانتقال الديمقراطي»، وكلّ مخرجات هذه «اللعبة الديمقراطيّة»، كأنّ انجازها في ذاتها تحوّل إلى «هدف في ذاته»، كما هو «التوافق» (بين الشيخين)، الذي يتمّ تسويقه في صورة «الدواء» القادر على نزع جميع «العلل»…
تبيّن بالكاشف ودون الحاجة إلى التعمّق أو النزول إلى الشارع من خلال عمليات سبر الآراء، أنّ زمن التباهي بهذه «الديمقراطيّة» وهذا «الدستور» وهذا «الانتقال الديمقراطي»، أو حتّى «الاستثناء التونسي»، الذي «طبّلت له» الأمم جمعاء، ولّى وانقضى أو هو (وهنا الخطورة) فات حدّه فانقلب إلى ضدّه (بالتمام والكمال).
يسأل «الشباب المتمرّد» (العاجز عن صناعة «ثورة جديدة») إن كانت «الديمقراطية» وإن كان «الدستور» وإن كان «الانتقال الديمقراطي»، وإن كان «الاستثناء التونسي» هذا، قادر على ملء الجيوب الخاوية والبطون الجائعة وتلبية حال هذه النفوس الباحثة عن مباهج الدنيا مثلها مثل البشريّة جمعاء؟؟؟
الحبيب الصيد أو أيّ اسم سيسقط في السفسطائيّة والتنظير واطلاق الوعود أو حتّى المطالبة بمزيد من الصبر والانتظار. لغة لم تعد القواعد الشعبيّة قادرة على سماعها أو حتّى قبولها أو (ربّما) فهمها، ممّا يعني أنّنا سنكون (بالتأكيد) أمام حوار «الطرشان» الذي سيستعيض عن القول بما هو «عنف الشارع» لتستعيض الحكومة عن قولها بما هو «العنف الرسمي»، ليكون «الثابت الوحيد» (في هذه المعادلة) انقال «الحوار» إلى «منطق الشارع»، وخطورة أن تنزلق تونس إلى «العنف المجرّد» (أيّ أن يصبح العنف غاية في ذاته)…
الطبقة السياسة أشبه بمن تناول جرعة مخدرات، والحكومة أشبه بذلك «المزطول» الذي يتحدّث عن «الأوهام» في صيغة «الحقيقة»، مع خطر أن يعتبر السامعون ذلك تعدّيا على كرامتهم وعدم احترام لذكائهم، وثانيا (وهذا الخطر) أن يستفيق هذا «المزطول» (بفعل الضربات) ليجد (مهما يكن على رأس الحكومة) أنّ «العنف» أصبح اللغة الوحيدة، والشارع الميدان الأوحد للتحاور….