في خضم ساحة تونسيّة مريضة بل موبوءة وانحدار مستوى الخطاب السياسي إلى مستويات لم تعرفها البلاد ولم تكن ضمن المتداول أو حتّى في حساب الخيال، انقلب الحبيب الصيد أو هو انبرى وصعد من مجرّد «عون تنفيذ» لدى «الشيخين» (الباجي على وجه الخصوص)، إلى ذلك «البطل الهمام» أو بالأحرى «الرجل الذي قال لا»، بل هي «ألف لا»…
لم نعد نقف أمام مشهد سياسيّ، بل هي «أحجية» الأمير البطل (أيّ الصيد) الذي يحارب (بمفرده) «التنين الذي يقذف لهبًا» (أيّ الباجي)، ممّا دفع كامل الطيف المعادي للشيخين أو بالأحرى للباجي، لركوب «موجة» هذا الصراع، والسعي أو هو الخيال، إن لم نقل الحاجة إلى «صناعة» أو «تصنيع» الصيد في صورة «البطل» أو ربّما (على شاكل باتمان أو سبيدرمان) ذلك «الرجل الأسطورة» القادر (بمفرده دائمًا وأبدًا) على «هزم» الأشرار» فقط (ودائمًا فقط) بالاستناد إلى «دعاء الثوّار وآهات المعذبين»…
نقف أمام مشهد سريالي بأتمّ معنى الكلمة أو هي «مسرحيّة» (ضمن أبعادها الفرجويّة) حين حرّك كلام الحبيب الصيد (أثناء الحوار التلفزيوني) «بعض السواكن» دون القدرة أو الرغبة أو ربّما العزيمة، على «قلب الطاولة» على شاكلة أفلام «الأكشن» أو «الرسوم المتحرّكة»…
وضع الحبيب الصيد المعادلة السياسيّة، أو هو صعد بها أو نزل (بحسب قراءة كلّ منّا) إلى «منزلة بين المنزلتين«، لا هو ترك المشهد كما هو ولا هو بلغ المراد.
هزّ (سي) الحبيب آمال العشرات إن لم نقل الآلاف، لكنّه ترك في الحلق مرارة وفي النفس حسرة (لدى هؤلاء)، حين رفض أو عجز أو هو ترفّع أو خاف، من فتح «باب الصراع على أوسعه» ليكشف «المستور»، أو ربّما حلم أو تخيّل الكثيرون «سيناريو تونسي» على شاكلة «السيناريو التركي» أي إقالة «المئات» أو «الآلاف»، أي بالمختصر المفيد، «ثورة أخرى»، إن لم نقل «الثورة الكبرى»…
بدا الحبيب الصيد أثناء الحوار وتبيّن بالكاشف أنّه يريد ويرمي ولا حلم له أوسع أو أبعد من «ردّ الاعتبار» لما هي «كرامته» في أبعادها «الشخصيّة» أو حتّى «الحميميّة» إن لم نقل «الذاتيّة» (ضمن المعنى الضيّق للكلمة)…
لكن الرجل، ومهما هانت تصريحاته لدى الكثيرين واعتبروها أقرب إلى «العتاب» أو هي «الشكوى»، فقد «كسر المحظور»، وخرج (على اعتبار المنصب والقيمة «الدستوريّة») بأحاديث المجالس الخاصّة إلى العلن، بل هو الإعلام الذي تأسّس وبدأ يقوم على «الفرجة»… أمّن (سي) الحبيب الفرجة، بل فاق «أبطال المسلسلات»….
من الأكيد وما لا يقبل الجدل، أنّ الحبيب الصيد أدخل البلاد أو هو دخل بها إلى «عهد جديد» (على مستوى الشكل خصوصًا) سواء كانت أساليب «الشكوى/العتاب» أو تصفية الحساب والقضاء على الخصوم.
الحبيب الصيد (الفرد) لا يبغي أكثر من «الثأر» لكرامة مهدورة والقصاص من طيف أهانه في العلن كما في السرّ، ومن ثمّة لا حاجة له من «المرور» أمام «مجلس نوّاب الشعب» سوى لإثبات ما يلي:
أوّلا: أنّ ليس كما يتخيّل «خصومه»، أيّ أنّه أبعد أن يكون من صنف «الطاعة العمياء» أو «الامتثال المذلّ»،
ثانيا: أنّه (على خلافهم) يتعامل مع السياسة وفق «منظور أخلاقي»، وجب على الخصوم قبل الأصدقاء الامتثال له والتمثّل به،
ثالثًا: أنّه هو من «يختار» أسلوب المغادرة، أيّ رفض «الاستقالة» وبالتالي «التوجه» إلى مجلس نوّاب الشعب، أين «يكرم المرء أو يهان».
أزعج الحبيب الصيد الباجي (رئيسه) قائد السبسي الذي حسب أنّ «كرامة» (سي الحبيب) مفقودة أو غير موجودة، وكذلك أزعج (بطريقة لا تقل قيمة وإن كانت أقلّ ظهورًا) «الشيخ راشد الغنوشي» الذي وإن ربح من صراع الصيد مع «ذئاب النداء»، إلاّ أنّ «حاسة التنظيم» (داخله) تخاف وتخشى كلّ «نفس متحرّر» قادر على كسر قاعدة «الولاء/البراء»، أيّ أن يكون «المثال» ويتحوّل إلى «الأنموذج»….
ذئاب «النداء» لا تزال على عهدها في «العواء» سواء بحثًا عمّا يسكن شهيتها غير المحدودة للجاه والثروة والمناصب أو (وهذا أخطر) الانتقام من هذا «الحمل الوديع» أو هم حسبوه كذلك. ينزعج هؤلاء من مجرّد أن يفتح (سي) الحبيب فمه على غير هواهم، وهم (قد) شاهدوا «كبيرهم» (الذي علّمهم السحر) أيّ الباجي، اختار الرجل لوداعته وانتقاه لما تخيّل فيه من «طاعة دون حدود» أو هو «الامتثال الأعمى».
مهما تكون نتيجة المرور أمام البرلمان، ومهما تأتي نتيجة «التصويت» يعتبر (سي) الحبيب ذاته «رجلا» دخل التاريخ من بابه الواسع، أيّ حين ملك الجرأة والشجاعة بل العزيمة على «كسر كلمة» (سي) الباجي، الذي صعد كرسيّ الملك، ودخل قصر قرطاج، دون أن يعي أو هو يستوعب أو يستبطن، أنّه ليس في «قيمة» (سي) الحبيب بورقيبة (على مستوى التاريخ والدستور)، ولا في قوّة (الجنرال) زين العابدين بن علي، على مستوى السطوة والجبروت. أيّ أنّ «عقل الباجي» (الشيخ) لم ولن يفهم أنّ الدستور جعل (سي) الحبيب الصيد أرفع مقامًا منه أو على الأقلّ يوازيه في السلطة…
الأزمة، التي ظهرت مع «حكاية» (سي) الحبيب الصيد، تكمن أو مصدرها، انتقال البلاد من «منطق» الانتقال الديمقراطي إلى «لعبة» الاستقرار المافيوزي، ممّا أبعد التعامل أو هرب به من «منطق الدستور» إلى «موازين القوى»، لا فرق في ذلك بين (الشيخ) الباجي قائد السبسي وجليسه (الشيخ) راشد الغنوشي، حين لم يستوعب هذا وذاك، أنّ زمن «السطوة» دون رادع ولّى وانقضى، فقط وحصرا (الشيخ) الباجي يحاول لكم خصومه «دون قفّاز»، في حين يفضل (الشيخ) راشد طعن خصومه بالواسطة وليس في وضح النهار….
«نهاية رجل شجاع» لا تصلح أن تكون عنوانًا لعمل درامي يلخّص ملحمة الحبيب الصيد، حين لم يذهب بالشجاعة إلى أقصاها، لكنّها (أيّ الحكاية مع النهاية) فتحت الباب أمام «وعي جديد»… وعي «الانتفاض» من أجل كرامة المهدورة…
الخلاصة: لفهم منطق الدولة في مواجهة منطق الاستفاقة، حكاية «سبارتكوس» الذي انتهى به الأمر فوق الصليب، كافية لأولي الألباب…