رغم السيل الفائض من الكلام المعسول والخطاب الجميل عن عمق العلاقات التاريخيّة بين الجزائر وتونس، من السياسيين (من الجانبين) في المناسبات وغيرها، وما هو الواقع من ترابط بين البلدين، لا يجد المسافر من هذا البلد إلى ذاك، سوى الطائرة أو أن يستقلّ سيّارة أجرة (غير معلنة رسميّا) بين القطرين. لا وجود لرحلات عبر القطار أو الحافلة، بل فقط «تاكسيات» جزائريّة يعمل أصحابها «خارج القانون»، لكن تحت «أعين السلطة» من هذا القطر وذاك.
إضافة إلى السياقة وتحصيل أجرة النقل، يبرع هؤلاء «السوّاق» في تجارة العملة، سواء بين كلّ من الدينارين الجزائري والتونسي، أو هو مرورًا عبر «إمبراطور» (العملات)، اليورو، الذي أصبح «سلاح الجزائريين» لقضاء عطلة في تونس أو هو للاستشفاء في مصحاتها.
الرحلات بين تونس العاصمة والجانب الشرقي من الصحراء الجزائريّة، تحمل نكهة خاصّة أو هي علامة مميّزة، حين يقصد العدد الأوفر أو هي الغالبيّة العظمى من الركاب من هذه المنطقة، عاصمة البلاد التونسيّة للتداوي خاصّة من أمراض العيون، المنتشرة بشدّة في كامل الصحراء الكبرى، لدرجة أنّ بعض السوّاق (أو جلّهم) صاروا من «سماسرة» الشقق المفروشة لهذه العائلات، التي تبحث (في غالبها) عن مكان للنوم في الحدّ الأدنى من النظافة والرفاهيّة…
قليل من التونسيين يقصدون الجنوب الجزائري أو القطر الجزائري عامّة، فقط مزدوجي الجنسيّة، أو ممّن لهم قرابات عائليّة هناك، وبعض «تجار الشنطة»، لذلك يأتي السواد الأعظم من عابري مركز «حزوة» الحدودي، أو مركز «الطالب العربي» (حسب التسمية الجزائريّة) من الجزائريين…
لذلك تولي الشرطة والجمارك في الجانب الجزائري أيّ زائر تونسي «عناية خاصّة»، سواء بتفتيش أمتعته في دقّة شديدة، بعد مرورها بجهاز «سكانر» أو بالسؤال والتدقيق عمّا يحمل من العملات جميعها، ووجوب تسجيل ما يملك منها في وثيقة، يدلي بها عند المغادرة…
مواطن جزائري ممّن يقضون نهاية الأسبوع الجزائري (الجمعة والسبت) في منطقة الجريد التونسي صرّح أنّ الجهد الأكبر من عمل الرقابة والتفتيش يقع على الجانب الجزائري، الذي يستطيع بفضل جهاز السكانر «فضح» الممنوعات، في حين لا تزال الديوانة التونسيّة تتكّل على «تقدير» حالة المسافر أو «النظر في عينه» كما قال المتحدّث…
رحلة تدوم 12 ساعة بين ثمانية مسافرين (إضافة إلى السائق) تنقلب أو هي تفتح على «صداقات جديدة» ونقاشات عن الأوضاع، بدءا بما جدّ في بن قردان، حيث أسف الجميع الجزائريين بخصوص ما وقع، مضيفين أنّ تونس تهمّهم مثل الجزائر، مع الخوف أن تفقد البلاد التونسيّة قيمتها السياحيّة، التي تمثّل ثابتًا أو هي وجهة «إلزاميّة» لدى أهالي الجنوب الشرقي الجزائري…
إضافة إلى الشكوى من الغلاء في تونس جاءت الشكوى كذلك من «عدم النظافة» في تونس، حين لم تكن «تونس كذلك»…
السوّاق، يعملون كذلك «محرارًا» للحركة التجاريّة بين البلدين، حين يتأسّفون على زمن كانت الجزائري يقضي يومًا كاملا في تونس بمبلغ 5 دنانير لا أكثر.
بين الشكوى من غول الإرهاب الذي ضرب الجزائر قبل تونس، والتذمّر من جحيم الأسعار المرتفعة في البلدين والتذكير بنعيم الأخوّة بين الشعبين، تمرّ الرحلة بين ركّاب سريعًا ما عبّروا عمّا ضاقت به الأصدر، من خوف من المستقبل، بين من «يشكو» (محاسن «الثورة»)، ومن يستعيذ من (هذه) «المؤامرات»، مع «زفرة» (طويلة) تخصّ «الوضع الليبي»، الذي يدفع الكلّ إلى نسيان الأسعار المرتفعة والنظافة المفقودة، والهروب إلى حمد الله وشكره على نعمة السفر ليلا دون خوف أو تردّد….
كما يعيش الجنوب الشرقي على التجارة والتهريب مع ليبيا، تأتي الجزائر متنفّسا للجنوب الغربي، خاصّة تهريب «المحروقات» المعروضة للبيع على الطرقات، دون أن تحرّك السلطات التونسيّة ساكنًا، في حين تدفع تونس إلى الجزائر بعشرات الأطنان من السلع، أهمّها «عبّاد الشمس» التي صارت من عادات الجنوب الشرقي الجزائري، حيث يطلق عليها الجميع تسمية «تشغيل الشباب» من باب التهكّم من البطالة وضيق فرص التشغيل.
مدينة «الوادي» (أو واد سوف) تأتي الأولى على طريق الداخل إلى الجزائر. هي عاصمة التجارة مع تونس (التهريب في رواية الأخرى). تجّار العملة يفضلون العمل جهرًا وعلى استعداد لتوفير أيّ مبلغ من أيّ عملة في وقت قياسي. سكّان المدينة من أكثر الجزائريين قدرة على التجارة وأشدّ التصاقًا بالمهن الحرّة ذات المردود المالي المرتفع. سواء على مستوى التجارة الداخليّة في الجزائر أو التجارة (التهريب) مع تونس.
كلّما زاد الانغماس في العمق الجزائري، كلّما صار الوجود التونسي (سلعًا وعملة) أقّل ظهورًا، ممّا يترك المكان للسلع المستوردة من دول أخرى.
السائق المخضرم الذي قضى عمره على الطرقات، خاصّة بين مدينة «الوادي» وتونس العاصمة، لم ينقطع عن الدعاء والتفاؤل، وبينهما ملاحظات عن انقلاب الصورة بين البلدين، حين عاشت الجزائر رعب «السنوات العشر»، وها هي تونس تعيش «حظّها» من إرهاب لا يعلم أحد مداه…