مثّل «الإسلام السياسي» التركي (أيّ حزب «العدالة والتنمية»)، على مدى العشريّة الفارطة «المثال الأنجح» وأساسًا «القدوة» التي يجب على التجارب (الإسلاميّة الأخرى) النسج على منوالها، سواء على مستوى العلاقة مع مكوّنات المجتمع الأخرى أو العلاقة مع دول المحيط أو العمق الدولي.
كذلك (وهذا الأساس) انتقلت ريادة «الإخوان المسلمين» منذ سقوط مرسي (على المستوى الاعتباري) من مصر إلى تركية، ليس فقط لنجاح التجربة في هذا البلد، بل (وهذا الأساس) تأسيس التجربة الإخوانيّة في تركية لما يمكن الجزم أنّه «عمق مجتمعي» يتجاوز بكثير «الارتباط العقائدي» إلى ما يشبه «العقد الاجتماعي» مع طيف واسع من الأطراف الاجتماعيّة. صورة نقيضة أو هي في قطيعة مع فشل «التجربة المصريّة»، التي سهّلت من خلال «أخطائها» نجاح الانقلاب…
حركة النهضة في تونس تعتبر نفسها وتتصرّف قيادتها وتتحرّك قواعدها في صورة «الحزب التونسي الأقرب» إلى تجربة نظرائهم الأتراك، بل لا يترك أيّ عنصر أو قيادي من هذا الحزب التونسي فرصة ولا يفوتها، ليذكّر ويتصرّف في صورة «الامتداد الطبيعي» أو هي «الصورة التونسيّة» للتجربة التركيّة….
وقف حزب العدالة والتنمية التركي إلى جانب حركة النهضة قبل وبعد 14 جانفي، سواء في العلن أو وراء الستار، وأشار راشد الغنوشي عديد المرّات إلى «عمق الروابط» مع «الشقيق التركي»، لكنّ هذا «التناظر» لا يسمح ولا يمكّن من الجزم أو حتّى القول أو الادّعاء أنّها أمام «الصورة البهيّة» التي تريد النهضة الترويج لها أو حتّى استغلالها، خصوصًا منذ الانقلاب الفاشل على نظام أردوغان…
في قراءة جدّ بسيطة ودون الحاجة إلى التعمّق، يمكن الجزم أنّ همّ «العدالة والتنميّة» الأوّل والأساس (في تركية) يكمن في التأسيس بل هو التجذير إن لم نقل «الزراعة»، سواء تعلّق الأمر بالنظام أو الرجال أو الأفكار والقناعات، في حين جاء همّ حركة النهضة الأوّل في تونس منحصرًا في «صناعة الصورة» أو هي «جماليّة القفز»، سواء من باب «البحث عن النجاة» أو هو الأهمّ «التخلّص من عقدة الذنب»…
المسألة لا تعني أو لا يمكن أن يهمّ «الفاصل الزمني» (كما تقول النهضة) بين التجربتين، أيّ بمعنى قدرة النهضة على التأسيس في تونس لما أسّس له «العدالة والتنمية» في تركية، حين لا يمكن (من منطوق تاريخي بحت) القول أو الادعاء بقدرة أيّ جهة على «نسخ» التجارب مثلما الحال داخل أيّ كمبيوتر، بل في ما يراه أيّ قارئ عادي من انفصام أو هو انفصال بين التجربتين.
استطاع العدالة والتنمية أن يحدث قطيعة «معرفيّة» (على قدر كبير من الخطورة والأهميّة) مع النظام «الأتاتوركي» القائم بل المسيطر على البلاد. توازن بين «التفادي» من جهة والاستفادة من حجم الهامش الممكن والمسموح به، في حين عجزت النهضة العجز الكامل أمام طيف «النظام القديم»، حين تحوّلت إلى «باحث» عن مكان، يتصرّف في «انتهازيّة» ومن خلال استغلال الفرص.
«العدالة والتنميّة» حيوان سياسي، انطلق من خلال سعي لبناء عشّ بين الأعشاش الأخرى، بل سعى على مدى العشرين سنة الفارطة إلى توسيع عشه، وها هو (مع الانقلاب الفاشل) يسعى ويعمل ويجتهد دون هوادة على التخلّص من الأعشاش الأخرى، بدءا بالأعشاش «الضارّة»، في حين لا تزال حركة النهضة (أسوة بذلك الطائر الطفيلي) تبحث عن «استغلال» أيّ عشّ موجود أو هي تريد أن تثبت أنّها ترضى بما أمكن…
أزمة هويّة بمعناها السيكولوجي بين الطرفين التركي والتونسي، حين أسّس أردوغان وجماعته ومن معه لما يمكن الجزم أنّها «ثقافة جديدة» (بالمفهوم الفلسفي)، في حين فشلت النهضة أو هي عجزت عن تأسيس «فكر جديد»، يتجاوز «كتابات الغنوشي» من كونها «حبر على ورق» إلى «مثال حياة ودستور ممارسة»…
أسّس العدالة والتنمية لشبكة من «وسائل الإعلام» التي استطاع من خلالها أن يكسر بل يفشل سيطرة «الدولة العميقة» على وسائل الإعلام، في حين عرفت التجارب الإعلاميّة التي مولتها النهضة أو وقفت وراءها الفشل الذريع (دون استثناء) ليس فقط على المستويين المالي والإداري، بل (وهنا الخطورة) انقلاب وسائل الإعلام هذه إلى صورة «ممسوخة» من «الإعلام المعادي»، أيّ أنّ الفشل التنظيمي تبعه عمى في الرؤية وعجز عن تبيّن الأفق وعدم قدرة على صناعة الأفق الإعلامي.
دون فكر (بمفهوم التطبيق) وفي عجز عن صناعة اعلام رديف، تحوّلت حركت النهضة إلى حركة «تنتهز» أخطاء خصومها، بل هي امتهنت «اقتناص الفرص» ممّا يعني (وهنا الخطورة) أنّ قوّة حركة النهضة (على عكس «العدالة والتنمية») لا تكمن في ذاتها بل في تدني مستوى «البطولة السياسيّة» (في تونس)، حين يمكن الجزم دون أدنى شكّ، أنّ الساحة التونسيّة أشبه ببطولة هوّاة في دولة حديثة العهد بكرة القدم.
ضمن منطق كرة القدم، تأتي النهضة الفريق «الأقلّ سوءا» حين استطاعت تسجيل الأهداف، بفضل لاعبها أو نجمها «راشد الغنوشي»، الذي لا يفكّ عن «قمع» أيّ «نجم صاعد»، ممّا جعله يمارس دور الممرّن، ويلعب في خطّة قلب الهجوم، بل من يحرّك البيادق.
يستحيل قراءة السياسة (فقط) من خلال «فقه الأولويات» بل فقط من خلال «منطق النشوء والارتقاء»، أيّ أنّ من عجز عن الرؤية سيكون عاجزا عن القراءة ومن ثمّة عاجزا عن التنظير وبالتالي عاجزا عن البناء والتشييد أو هو تأسيس «المشروع»…
فقط أقصى ما يمكن: لعب ضمن «البطولة» وفوز على من يتفوق عليهم في المدى ولا يختلف عنهم سوى بالقامة.
أزمة رؤية وتباين في المشاريع أو هو تناقض. أردوغان دكتاتور (بمفهوم رومة القديمة)، لكنه أذكى من «خصي» رفاقه كما يفعل الغنوشي، وكذلك تأتي الآلة التركية أقدر من نظيرتها التونسيّة على انتاج قيادات قادرة على العمل خارج منظور «الولاء والبراء» أو هي «البيعة» (غير المشروطة) كما هو حال النهضة.
خلاصة: القرابة الدمويّة (بالمعنى العقائدي) والشبه في الخِلقة، غير ضامن للنجاح، بل غير كاف له…
الواقع التركي أكثر تطورا اقتصاديا و ثقافيا و اجتماعيا من الواقع التونسي لذلك كان الاختلاف كبيرا بين العدالة و التنمية و حركة النهضة ….