على المستوى «الخطاب» (المتداول) هناك تقاطع بين «جبهتي الصراع» في تونس حول «ضرورة الحوار» وإن كان الفارق كبيرا والبون شاسعًا بخصوص شكل الحوار والأطراف المشاركة فيها، وأساسًا المخرجات الممكنة أو بالأحرى المطلوبة من قبل كلّ طرف.
رئيس الجمهوريّة تحدّث عن «تونس للجميع» بما يعني ضمنا الاعتراف وإن كان بشكل غير مباشر بالخروج أو التنازل عن منطق «الاقصاء»، ومن ثمّة بحق الأخرين في الوجود، ممّا يعني حق الأطراف الأخرى في المشاركة في صياغة القرار السياسيّة.
العجمي الوريمي أحد الأصوات الرصينة داخل حركة والبعيد عن «الخطاب الناري» يعترف بأنّ الطلب لا يكمن في العودة إلى نقطة «ما قبل 25 جويلية» ممّا يعني وبصيغة ما، الاعتراف بوجود ما لقيس سعيّد، في توافق واستمرار أو التأكيد لما صرّح راشد الغنوشي ضمن الحوار الذي أجراه معه موقع «عربي 21»، أنّ «عودة الشرعيّة» (البرلمانيّة) لم يعد شرطًا وجوديّا، للدخول في «عمليّة حوار» ما.
نقيب المحامين، هو الأخر، وإن أعلن عن رفض قانون الماليّة للسنة القادمة، فقد حاول مسك العصا من الوسط، أي عدم تمكين قيس سعيّد من «صكّ براءة»، وكذلك عدم الطعن في شرعية وجوده، ممّا يعني أنّ عمادة المحامين تضع ذاتها عند نقطة تقاطع يتمّ الإعداد لها، أو على الأقلّ يسعى الرجل لإيجادها، أو في الأدنى الإعلان عن الاستعداد لإيجادها، أيّ تأسيس صيغة جديدة من «الحوار الوطني»…
هذا «الغموض» في الموقفين أو هو «التضارب»، بمعنى الإصرار على الموقف، أيّ عدم التنازل الاستراتيجي، لا يمنع «تغيير الموقف» تكتيكيا، دليل على بداية التغيير في الخطاب، أساسه بداية الوعي لدى الطرفين بأمرين، أنّ «بقاء الوضع» على حاله، شديد الضرر بالطرفين، حين تعلم قيادة النهضة باليقين والدليل والبينة، أنّ «سقوط قيس سعيّد» بطريقة ما وبأيّ وسيلة كانت، لا يعني بأيّ حال عودة الشرعيّة، وأبعد من ذلك عودتها إلى الحكم، ممّا يعني أنّ بقاء/إبقاء قيس سعيّد في الحكم والدخول معه في «توافق» ما، مفيد جدّا على أكثر من واجهة :
أوّل فائدة : ضمان عدم الذهاب في مواجهة جدّ مكلفة، في وقت تراجعت فيها الحركة، ولم «على قلب رجل واحد»، حين انشقّ من انشقّ، وصارت أصوات المنتقدين داخل الحركة لوجود الغنوشي قبل سياسته في ارتفاع متواصل، دون أن ننسى أنّ ديدن زعيم الحركة «الجنوح إلى السلم» وتفادي المواجهات مع باقي الأطراف ضمن المشهد السياسي في تونس…
ثاني فائدة : أدركت النهضة أنّ المحيط الإقليمي والدولي، وإن كان غير داعم للرئيس قيس سعيّد دون حدود أو شرط، إلاّ أنّه لم يقف ولا يقف في وجه «الانقلاب» بما كانت هذه الحركة الاسلاميّة تريد أو تأمل من الصرامة المطلوبة، ومن ثمّة أكثر ما هو مطروح من قبل هذا المحيط الإقليمي والدولي، لفائدتها، فيتو عدم الذهاب في «السيناريو المصري»، ممّا يعني وجوب الظهور في صورة «الإيجابي» الذي يُظهر من حسن النيّة والاستعداد للمصالحة، ما ينفي عنها تهمة «العناد» وما هي تبعاته على المستوى الإقليمي والدولي.
ثالث فائدة : تعلم النهضة أنّ «القوس» الواسع المعارض لقيس سعيّد ما كان ليقف إلى جانبها، سواء داخل «جبهة الإنقاذ» أو غيرها من تركيبات المعارضة، لولا «عناد» قيس سعيّد وإصراره على «عدم تقاسم السلطة» أو أقلّه توزيع بعض المناصب على بعض الوجوه، خاصّة تلك التي رقصت طربًا ليلة 25 جويلية 2021 من باب الشماتة في النهضة وهي تتخيّل أو بالأحرى تتمنّى أنّ مجرّد الاشتراك في معاداة هذه الحركة، كفيل بجعلها ذلك «الشريك الموضوعي» في إدارة فترة ما بعد «الحركة التصحيحيّة». كما يعلم الغنوشي أنّ الجماعة في السرّ ليسوا كما هو في العلن، وبالتالي على استعداد للانقلاب على مواقفهم والانتقال إلى خدمة قيس سعيّد في حال قرّر أو هو وعد وربّما أوهم باستعداده لتمكينهم من بعض المناصب.
اليقين في عمق الذات، لدى كلّ من الغنوشي وسعيّد، سواء بعدم القدرة كلّ منهما على الانتصار على الأخر بالضربة القاضية بالسرعة المطلوبة، وأساسًا الفيتو الإقليمي في هذا الشأن، أعاد أو هو بدأ يعيد المنطق الذي أسّس لما كان من «توافق» مع الباجي قائد السبسي، أيّ أنّ كل ضربة/طعنة من أيّ منهما تجاه الطرف المقابل، لا تعدو أن تكون سوى مزيدًا من القوّة للأطراف الأخرى، الذي ترى كلّ الفائدة من التحطيم المتبادل بين النهضة وخصمها، أيّ الباجي قائد السبسي في السابق، والرئيس قيس سعيّد راهنًا.
رابع فائدة : هي حسابات راشد الغنوشي الشخصيّة، أي عدم الذهاب إلى المؤتمر القادم للحركة في ظرف داخلي شديد التوتّر، وثانيا إنهاء وجوده على رأس الحركة وترك زعامتها، وقد أنجز ما يُمكن تسميته «السلم الاجتماعيّة» والظهور (مرّة أخرى) في صورة «المنقذ» الذي لولاه لكانت الحركة في درك أسفل، ومن ثمّة يغادر منصب الرئيس (في بعده السياسي) ليرتقي إلى مقام «المرشد» (في بعده الوجودي).
مثل معظم التفاعلات الكيمائية من هذا الشكل، تتطلب موضوع «التلاقي» عند نقطة تقاطع بين الطرفين، أي النهضة والنظام الذي يقوده قيس سعيّد، وإلى كثير من «الحرارة» بغية إذابة نقاط الخلاف، وإلى دعم داخلي ممثلا في طبقة رجال الأعمال والفاعلين الاقتصاديين، الذين يرون في السلم السياسيّة وما هي تأثيراتها على الاقتصاد شرطا لعودة ماكينة الإنتاج إلى العمل، وثانيا (وهذا لا يقلّ أهميّة) وجود النهضة التي «طبّعت» مع الفساد ضامن لعدم عودة قيس سعيّد البتّة إلى موّال «استعادة أموال الشعب المنهوبة»…