هناك خلط لدى أصحاب القرار في المجال الإعلامي عامّة والقطاع الخاصّ بالتحديد، وعلى الأخصّ القنوات الفضائيّة، بين الإشعاع والقدرة على جذب المتفرجين، من ناحية، مقابل ما يتخيّلون من قدرة (مفترضة) على التأثير أو بالأحرى توجيه الموقف حيال الأحداث السياسيّة والانتخابات بوجه الخصوص، لأنّ هذه القنوات، تأتي دون استثناء، ودون ورقة التوت، مجرّد «أدوات» هدفها تأكيد الموقع السياسي لأصحاب رأسمال وكذلك من هم خلف الستار من لوبيات لا تتورع عن التمويل خارج أيّ إطار قانوني…
من ذلك لا يأتي الهدف الأوّل (أسوة بأيّ مشروع تجاري) تحقيق الربح المادي، عبر الإعلانات وكلّ الوسائل المشابهة، بل في ما يراه أصحابها، من توسيع دائرة التأثير السياسي بالأساس، مع ما تعني الكلمة بين طياتها من مواقف حيال المسائل الثقافيّة وحتّى الدينيّة.
مشكلة أصحاب هذه القنوات، والطواقم التي تعمل لديهم، أنّهم يرون «ملكيّة» القناة من منظور اقطاعي بحت، أيّ أنّ القناة «متاعهم» (ضمن المعنى الفصيح كما الدارج للكلمة)، حيث تطغى «غريزة التملّك» (مثلما هي علاقة أي طفل صغير بلعبته) أكثر منه الاستفادة بمفهوم الثمر الذي يتمّ جنيه وإن كان إلى حين. من ذلك تأتي القنوات جميعها، صورة مطابقة للأصل للهوى السياسي لمن يدفع المال، الذي يريد :
أوّلا : تفعيل القناة ضمن الصراع الدائر، سواء أفقيا أو عموديا، ضمن هرم الأعمال والأموال، حين يريد الجميع الارتقاء إلى أرفع درجة ممكنة، ضمن هذا الهرم، الذي لم يتشكّل، منذ أن غادر المشرف عليه تونس يوم 14 جانفي 2011.
ثانيا : جميهم يريدون إرضاء نرجسيتهم المهتزّة بفعل سنوات الطاعة والخنوع زمن بن علي، بل يريدون نفي «عقدة الإخصاء» حين يتوهمون أنفسهم «أصحاب قدرة في مجال الإعلام» (باستثناء سامي الفهري) ومن ثمّة على المستوى الاستراتيجي يوجهون الدفّة الكبرى للقناة وفق هواهم، وعلى المستوى التكتيكي، يملك كلّ منهم رأيا ومن ثمّة أمرا باتّا وقاطعا، لا يقبل النقاش/ بخصوص التفاصيل، بدءا بحذاء مقدّمة البرنامج (الذي لا يُرى على الشاشة)، وصولا إلى ربطة عنق هذا «الكرونيكير» أو ذاك.
وهم الامتلاك وخيال التأثير، يجعل بين أصحاب القنوات وتوابعهم وخصيانهم ومواليهم، يؤمنون بأنّ الهدف الوحيد التي تعمل من خلاله القناة يكمن في «إقناع» المتفرّج بما هي «الحقيقة»، أساسًا عبر «تعرية» من يرونه مذنبا أو هو خطر على البلاد والعباد وربّما على الوسطيّة والحداثة والديمقراطيّة وهلمّ جرّا من الألفاظ المرادفة.
يمكن الجزم أنّ الهدف الأساسي لأيّ برنامج سياسي في تونس، يكمن في «شيطنة» طرف بعينه، ومن ثمّة يسقط «الضيوف» عن وعي وإرادة، ومن ثمّة انتهازيّة واستغلال فرص، أو هي عن دراية وإدراك، في «تخميرة شتم» الطرف المعني، دون حسيب ولا رقيب، سوى المدى الذي حدّدته القناة، ضمن لعبة التمركز التي تمارسها على أرض (سياسيّة) بركانيّة غير ثابتة أو هي متفجرة.
بإمكان طلبة معهد الصحافة وعلوم الإخبار، الاشتغال على «خطاب ردّ الفعل على القنوات التلفزيونيّة»، ليجدوا أنّ «شيطنة» هذا الطرف أو ذاك، غايته الأولى والأساسيّة تكمن في تقديم «الذات»، الضيف أو «الكرونيكور» أو القناة، في صورة «القديس» (بالمفهوم المسيحي) الذي يحوز جميع الخصال التي تؤهله (افتراضًا) لمسك السلطة.
محمّد نجيب الشابيّ (مثلا لا غير) الذي فشل ضمن لعبة الانتخابات، لا ينفكّ عن تقديم ذاته «بديلا» بمجرّد أن يكون عدّد سيّئات من يحكمون، دون ذكر لذلك «الجسر» الذي سيعبر به نحو قرطاج أو قصبة، علمًا أن العمق الشعبي نسيه ولم يعد له من أثر لديه.
نفسه العقل تعيشه هذه القنوات، من خلال إصرارها على «شيطنة» هذا الطرف أو ذاك، لا تفعل سوى تمرير جهة أو جهات في صورة «النقيض» الذي يتحوّل (أشبه بالحمامة التي تتحوّل أرنبا داخل قبّعة الساحر) إلى «البديل» الموضوعي.
آلة الخلط المتعمّد والمقصود بين كلّ من «النقيض» و«البديل» يمثّل «عدّة شغل» الوحيدة لدى هذه القنوات، التي أسوة بكلّ فكر اقطاعي/قروسطي لا تمارس أيّ درجة من درجات نقد الذات أبدًا، بل تأتي كلّ «الأخطاء» وفق نمط التفكير هذا من فعل «الآخر»…
هي عمليّة إدمان، ومثل أيّ عمليّة إدمان تصبح غاية بذاتها بل هي ضرورة وجوديّة، يتمكّن خلالها «المريض» من تأكيد ذاته لذاته، فقط، دون أدنى عمليّة نقد ذاتي، كانت ستثبت بالدليل المادي القاطع أنّ ذات الأسلوب يقود إلى ذات النتيجة، وأن من أراد تغيير النتيجة أن ينتهج أسلوبًا مغاير.
نقطة ضعف الفكر الاقطاعي المعتمد من قبل هذه القنوات، أنّه لا يؤمن ولا يعمل وبالتالي لا يستوعب وجود «مناطق وسطى» بين «قداسة الذات» مقابل «شيطنة الآخر»، وحتّى بعض «الشطحات» على بعض المنابر، تأتي دون جذر مهني ودون تأصيل على مستوى الممارسة، لتكون أشبه بقطرات مطر متباعدة نزلت في صحراء قاحلة، فتبخرت قبل أن تمسّ الرمل الحارق.
لم يفهم ولن يستوعب «باعثو القنوات» ولفيف التابعين، أنّ قناة «الجزيرة» مثلا، حين تستدعي على شاشتها «الطرف المقابل»، فهي تهدف (قراءة للنتائج دون تشريحًا للنوايا) إلى جعل المتلقي يُعجب بالشكل (المتوازن) ليصدّق المحتوى (المعتدل)، في حين أنّ «خصيان» تونس لا يملكون ثقة في ذواتهم وأكثر من ذلك في بعضهم البعض لفتح حنفيّة «الرأي والرأي الأخر» وإن كان بمقدار، لأنّ الخوف من العجز متأصل في ذواتهم وعقد الخصي الذي خلّفها بن علي متجذّر دون أمل في الشفاء.