عندما تسمع وتشاهد وتطالع «أصحاب العقول» من الصهاينة داخل فلسطين المحتلّة وخارجها، ومن يملكون قدرة التفكير الهادئ والرصين، يعلنون أنّ «إسرائيل انتهت»، فهم باليقين يرون الأمر أبعد من صواريخ المقاومة وأعمق من الهلع الذي أصاب المستوطنين، بل هو اليقين بأنّ هذا الكيان «غير قابل للعيش»، سواء في علاقة بذاته، بمعنى تركيبته الاجتماعيّة الداخليّة، أو هي القدرة على الدوام بالحديد والنار وسط محيط، رافض له وغير قابل لهذا «الجسد الغريب» داخله.
عندما نكتفي بظاهر الأمر وما هو ثابت وما يشاهده الجميع، يمكن الجزم أنّ هذا «الكيان» خان مؤسّسيه وانقلب على الفلسفة التي قام عليها وعلى أساسها انتقل عشرات الآلاف من جميع أنحاء العالم، لإقامة «الحلم الموعود»…
عمليّة الردّ التي أقدم عليها ما يسمّى «جيش الدفاع» ردّا على «سيف القدس» جاءت تحت تسمية « حماة الأسوار»، بمعنى أنّ العقل الصهيوني المعاصر، عاد إلى «غريزة» الغيتو (الدائرة باللغة الإيطاليّة)، وهي أحياء كانت لليهود في الدول التي أقاموا على أرضها وفيها عاشوا في قطيعة ذهنيّة مع ما تجاوز هذه «القلعة» المعزولة» ذهنيا عن العالم الخارجي.
وجب التذكير أنّ المشروع الصهيوني قام على «صناعة انسان» جديد في قطيعة ما صورة اليهودي المجبول على الجبن والخوف الانزواء والانقطاع دون العالم، إلى شخص جديد اسمه «الصبّاريم»، وهو أقرب إلى غزاة الغرب الأمريكي، الذي لا همّ له سوى التوسّع وغزو المزيد من الفضاء الجغرافي في نفي ومن ثمّة في إبادة لمن يقف أمامه.
عقل «من الخارج إلى الداخل» (اليهودي التقليدي) ترك مكانه وفق المشروع الصهيوني لعقل «من الداخل إلى الخارج»، ومن ثمّة، جاء «الصبّاريم» نقيض «اليهودي» (التاريخي) أو بالأحرى محاولة لنفض التاريخ، أو هو الانتقام منه.
منذ اليوم الأوّل الذي فكّر فيه «العقل الصهيوني» في إقامة «الجدار» الفاصل عن الضفّة الغربيّة، تراجع هذا «الصبّاريم» وانكفأ لفائدة «اليهودي» (التقليدي) الذي يعشق الانزواء إلى الداخل، وقد أقام أسوارا عالية، بل أعلى ما يكون. علمًا وأنّ مفهوم «القلعة» في بعدها الهندسي، تجاوزها الزمن وعفا عليها الدهر، حين يمكن لصواريخ، بل لقذائف الهاوون القفز فوق هذا السور,
الخروج من غزّة، املته ظروف عسكريّة بحتة، أيّ عجز الجيش الصهيوني عن تحمّل الثمن الواجب دفعه نظير السيطرة ومن ثمّة الاحتفاظ بهذه البقعة من الأرض. أخطر من هذا الانسحاب في ذاته، أنّه جاء بقرار من آريال شارون، العسكري الأشهر في تاريخ ما يسمّى «جيش الدفاع». الرجل الذي دعا كثيرون في جدّ إلى تنصيبه «ملكا» على الكيان.
إذا كان «ملك إسرائيل» ذاته، الذي يملك رصيدا كبيرا في قمع الفلسطينيين وهو صاحب عملية «الدفرسوار» التي أقدم بها وحاصر بها، «الجيش الثاني» المصري أثناء حرب أكتوبر، قرّر التحرّك «من الخارج إلى الداخل»، بمعنى الانكفاء، فكيف يكون عقل «الصهيوني» العادي الذي لم يستوعب بعد «غريزة الصبّاريم» أي الانطلاق نحو تأسيس ما يسمّى «دولة إسرائيل» الموعودة من النيل إلى الفرات.
تأسّست «غريزة الصبّاريم» على نظريّة بن غريون القائمة على عنصرين :
أولا : نقل الحرب إلى أرض العدوّ دائما وأبدًا.
ثانيا : حرب خاطفة وسريعة تحقّق نصرًا حاسمًا.
تطلّبت «عقيدة بن غريون» وجود «عسكري» مثالي، يكون قادرًا على نقل المعركة إلى أراضي الخصم والحسم في سرعة فائقة، ممّا يؤسّس لرأسمال لا مثيل له على مستوى القيمة : قدرة الردع، أيّ جعل المحيط العربي المباشر قبل العمق العربي، لا يفهم فقط، بل هو اليقين بالعجز التام وغير القابل للمراجعة، على مقاومة هذا «الصبّاريم» الذي يستطيع أن يضرب من يريد، عندما يريد أينما يريد، دون قدرة الفلسطيني أو العربي على الردّ.
من ذلك أنّ «العدوان الصهيوني» على لبنان سنة 1982 قام على تعلّة واهية، وهي محاولة اغتيال شديدة الغموض لسفير الكيان في المملكة المتحدة، فكان أن وصل الجيش الصهيوني إلى العاصمة اللبنانيّة بيروت، واحتلّها، قبل أن ينحصر هذا المدّ رويدًا.
بكلّ المقاييس غابت «عقيدة بن غريون» بالكامل تقريبًا ولم تعد قائمة. لم يعد ما يسمّى «جيش الدفاع» قادرًا على اشعال الحرب متى أرادـ، دون سبب أو لأسباب واهية، ولم يعد قادرًا على نقل المواجهة إلى أرض غيره، ولم يعد قادرا على اختصار هذه المواجهة في فترة زمنيّة وجيزة.
عندما نأخذ العدوان الصهيوني على غزّة الدائر حاليا، نجد أن الحرب مسّت «الجبهة الداخليّة» بل أثخنت فيها في شدة وعنف، وعجز الجيش الصهيوني عن الحسم خلال الفترة التي يريدها، بل أبعد من ذلك، على مستوى الخطاب، أصبحت قيادات الكيان تستخدم عبارات لم تخطر بالبال زمن بن غريون، مثل «عدم الرغبة في التصعيد» مثلا، وهي عبارات، ليس فقط نقيض عقدة التفوّق الذي قام عليها الكيان، بل هي ما كان يستعمله العرب زمن عزّ «دولة إسرائيل»…
لا يكمن عجز الكيان الصهيوني في القطع والتخلّص من «عقيدة بن غريون» فقط، بل في العجز دون رجعة عن استرجاعها، ومن ثمّة نمت داخل هذا الكيان «عقدة الضعيف» الراغب في أن تؤمّن الولايات المتحدة ومن ورائها العمق الغربي أمنه، بل أن يحارب بدلا عنه، ليقين داخل لدى حكّام تل أبيب، أنّ وجودهم محلّ إجماع في الغرب، ومن ثمّة على هذا الغرب أن يتحوّل إلى «خطّ دفاع» أوّل عن هذا الكيان.
رجوعًا إلى التاريخ، نجد أن الاهتمام الأمريكي الفعلي والحقيقي بالكيان، انطلق بُعيد «النكسة» (حرب جوان/حزيران 1967) حين أثبت هذا الكيان سيطرة على المنطقة. بنزول أوّل جندي أمريكي الأراضي العربيّة سنة 1992 إثر غزو العراق للكويت، فهمت الولايات المتحدة أن التعويل على الصهاينة في صورة «شرطي المنطقة» مستحيل، وفهم «عقلاء» الصهاينة أنّ الغرب الذي تحكمه عقلية «التاجر» يرفض الدفع لحارس يتطلّب بدوره حارسا يحميه. فقط هي رغبة من الغرب النفخ في دلو مثقوب… مهما حاول هذا أو ذاك رتقه.
من ذلك، مهما تكن نتيجة العدوان الحالي على غزّة، بدأت ساعة الرمل تعدّ اندثار المشروع الصهيوني، قد تطول أو تقصر عشر سنوات. لكن عجلة التاريخ لن تدور عكس حتميات لا يمكن نقضها…. بطارية لم تحتمل الشحن…