انطلقت الحملة الانتخابية للتشريعيات القادمة بصفة جدّ محتشمة، بسبب سوء الأحوال الجويّة واهتمام الجماهير بمجريات كأس العالم لكرة القدم، دون أن ننسى (وهذا الأهمّ) أنّ الرهانات لم تعد ذاتها، قياسًا بالمواعيد الانتخابيّة التي جدّت قبل 25 جويلية 2021، حين تغيب عن المشهد (الحالي) تلك «الفرجة» القائمة على «النزال الأيديولوجي»، الذي يتمّ تسويقه على مدار اليوم والساعة، والتشديد على الأمر إبّان الانتخابات، بأنّ الصراع يتّخذ طابعًا «وجوديّا» بين «الهويّة الاسلاميّة» (ضمن صورها العديدة) في مقابل كائن ديمقراطي/حداثي/تقدمي/دستوري، يتأسّس ويؤسّس وجوده على معاداة «الطرف الإسلامي» وقطع الطريقة أمامه، أكثر من تقديم برامج واضحة ومشاريع جليّة…
من ذلك لم يعد المشهد الانتخابي ذاته، حين تقف البلاد (راهنًا) أمام «أفراد» جلّهم أو أغلبهم من خارج الدائرة السياسيّة التقليديّة، أيّ ممن لا وجود لهم (إعلاميّا ومن ثمّة سياسيّا) خارج الحيز الجغرافي الضيّق (الحيّ أو البلدة).
من الطبيعي أنّ تطلّ وجوه عديمة التجربة السياسيّة في أغلبها، ترى الفعل السياسي عامّة وداخل المجلس القادم على وجه الخصوص، من منظار النوايا الذاتية والتصوّرات الفرديّة، أقرب منه إلى ذلك «الفكر الماكيافلي» الذي طبع جزاء غالبًا من الطبقة السياسيّة التي طغت على المشهد منذ 14 جانفي 2011 إلى حين تفعيل الفصل ثمانين يوم 25 جويلية 2021.
يتّكل جميع المترشحين إلى هذه الانتخابات على ظاهرة «النشوء التلقائي»، أيّ أنّ مجيء الرئيس قيس سعيّد «من عدم» وفق أدوات التحليل التي سبقت وصوله، بمعنى أنّه لم يكن وجها سياسيا «معروفًا» وأكثر من ذلك لا ينتمي إلى إحدى العائلات السياسيّة الكبرى، قادر على الخروج بهم من أحيائهم (وهي أوسع مجال ممكن لوجودهم الفعلي والفعّال) إلى مجلس نوّاب الشعب، والانتقال من صيغة «الفرد» المنزوي ضمن حيز جغرافي ضيّق إلى «نائب» يشعّ بمنصبه على البلاد بأكملها.
من ذلك غاب «رئيس القائمة» الذي عادة ما يكون قد ضمن الفوز، من جهة، مقابل «ذيل القائمة» الذي يعلم حسابيّا أنّ وجوده لا يتعدّى ولن يتجاوز «ملء الفراغ» من باب تلبية الشروط المفروضة لا غير.
تحوّل جدّ خطير، بل هو انقلاب في المشهد السياسي التونسي، بمعنى أنّ هذا الحزب أو ذاك الائتلاف أو ذلك الكيان السياسي (مهما كان الشكل) عاجز كلّ العجز ليس فقط عن الانتقال إلى مجلس نوّاب الشعبي وفق «الهرم التنظيمي» الذي أعدّه، بل دون القدرة على ضمان العبور للأسماء «المرموقة» في هذا التنظيم السياسي أو ذاك.
مقاطعة الأحزاب السياسيّة (التقليديّة) لهذه الانتخابات، قام أساسًا على رفض المنظومة التي أقامها الرئيس قيس سعيّد ومن ثمّة يكون «طبيعيّا» (وفق ذات القناعة) مقاطعة انتخابات أقرّها ذات الرئيس وأقامها وفق ما أدخل من تغييرات على القانون الانتخابي. هذا الموقف وهذا التبرير، لا يفسّران بمفردهما هذه المقاطعة، حين الخوف قائم داخل كلّ كيان سياسي من «فيروس» التفرقة، حين لا أحد ضامن بالمرّة أنّ تحترم «القاعدة الشعبيّة» ما هي «توجيهات القيادة» بالتصويت بالجملة للمجموعة التي قدّمها الحزب وعدم «التخلّص» من بعض الإخوة/الرفاق من باب تصفية حسابات «قديمة» لم تزدها الأيّام سوى حقدًا.
مثال ذلك أنّ حركة النهضة مثلا، التي عرفت «مشاحنات» عند تشكيل القائمات الانتخابيّة للمجلس التشريعي الذي تمّ حلّه، غير ضامنة بالمرّة، في حال الانتخابات على الأفراد، أن تنصاع «الكتلة الناخبة» إلى «القائمات الرسميّة» ولا تذهب وفق الأهواء التي أفرزتها الانتخابات التمهيديّة التي جرت داخل هياكل الحركة وتجاوزها راشد الغنّوشي بجرّة قلم.
بروز «نخبة جديدة» أو بالأحرى توفير مسار سياسي يمكّن من هبّ ودبّ من سواد الشعب من الانتقال من «رجل بين الزحام» (وفق الصورة التي قدّمها المخرج «إيلي كازان» في شريط سينمائي يحمل ذات التسمية) يفسّر أو بالأحرى يبرّر ما نرى من «سذاجة» لدى المترشحين، الذين يرون الواقع السياسي كما يراه قيس سعيّد، ويعبرونه مثلما يعتبره هذا الرئيس، أيّ أنّه وفق ما يرونه و(الأخطر من ذلك) أنّه سيكون وفق ما يريدونه.
أغدقت «الطبقة السياسيّة التقليديّة» من السخريّة والاستهزاء وحتّى التشهير والاحتقار ما استطاعت على هذه «الفئة الجديدة» المقبلة على المجلس التشريعي وهي (أيّ الفئة الجديدة) ترى ذاتها صاحبة عصا سحريّة (أو عصا وفق الصورة التي ظهر بها أحد المترشحين) تمكّن من القول لأيّ شيء «كن فيكون».
هو بالتأكيد خطاب «شعبوي» بسيط وحتّى بدائي وساذج وفق أدوات التحليل الكلاسيكيّة التي قامت عليها الطبقة السياسيّة وأقامت عليها ممارستها، لكنّها في الآن ذاته (وفق تفكير «الفئة الوافدة») يمثّل نفيا وقطيعة وحتّى نقيضا لفكر ليس فقط (وفق ذات الرأي) فشل في توفير ما وعد به من «تنمية» (اقتصاديّة)، بل لم يستطع أن يفي بوعد توفير «العدالة» (الاجتماعيّة).
في غياب دراسة علميّة تجمع الدقّة بالصرامة الأكاديميّة، لا يمكن الجزم بالمساحة التي يحتلّها كلّ من الطرفين، لكن يمكن الجزم، أن لا حظّ لأحدهما بتحقيق «الضربة القاضية» من الوهلة الأولى، وكذلك لا أحد يستطيع أن يقصي الأخر من مجاله الحيوي، حين يأتي الصراع بين الطرفين أبعد من «حرب» بين «جبهة اللطم» حزنا على ضياع «الشرعيّة» من جهة، مقابل «جبهة البحث» عن «هيكل مفقود»….
هي «رحلة تيه» مزدوجة، بل أخطر من ذلك أنّ هذا الطرف يعاير الأخر وهو لا يعلم أنّ بيته من زجاج : «أيتام الشرعيّة» يحلمون ويستمنون ليستفيقوا جماعة صبيحة 26 جويلية 2021 وقد أدكوا أنّ ما جدّ كابوسًا انزاح عن صدورهم بمجرٍّد الاستفاقة، في حين يرى «العابرون بين سياسات عابرة» أنّ «زمن التيه ولّى وانقضى» وأن «الموميات» التي تؤرق منامهم مجرّد كوابيس عبرت إلى «الجحيم» دون رجعة…
في انتظار «فارس الأحلام» القادر وفق «أساطير» تمّ تدوينها بدموع «بناة الشرعيّة» وفي انتظار «صاحب العصر والزمان» وفق خرافات «بناة الأحلام»، ستبقى الدولة (العميق كما البادي للعيان) أقرب إلى ما كانت بيروت خلال حربها الأهليّة، مقسّمة بين «مربّعات نفوذ»، دون التفكير بالمحافظة على بقعة في تونس تلعب الدور الذي لعبته «منطقة المتحف» في العاصمة اللبنانيّة.