لا أحد يصدّق أنّ بالإمكان حلّ «المخابرات الجزائريّة» اليوم، وبناء «مخابرات أخرى» من الغدّ. لا عقل أو هو خيال يحتمل هذه الفرضيّة أو حتّى يتقبّلها سواء في الواقع الحقيقي أو الواقع القابل للتصريف إعلاميّا وسياسيّا.
أكثر ما يمكن فعله «تغيير اللافتة الخارجيّة»، لا غير، كمثل ما تفعل عديد الشركات الكبرى عندما تريد أن تدفع بنفسها إلى الأمام متخلّصة من «إرث الماضي»…
مسألة «إرث» هي بالضرورة، إرث في بعده المرئي حصرًا، لصناعة «صورة جديدة» في حين يبقى الإرث إرثًا، حين لا أحد من البشر، يملك قدرة «إعادة صناعة ماضي» هذه المخابرات (بالكامل) أو «محوه تمامًا من ذاكرة الجميع»، أو (في أسوأ الحالات) تحميلها للجهاز (السابق) الذي دخل (قانونيّا) طيّ النسيان.
لا تعدو المسألة أن تكون عملية «علاقات عامّة» أو «ترويج» المادّة ذاتها في «علبة جديدة»، سواء لتغيير «الصورة» أو (الأهمّ) التخلّص من جزء منها.
وجب التذكير أنّها ليس المرّة الأولى التي يعمد فيها «القرار السياسي» إلى مثل هذه العمليّة «التجميليّة». المرّة الأولى والأهمّ كانت عندما أخرج (أو هو تخلّص) الشاذلي بن جديد من أسطورة «الأمن العسكري» (هكذا كانت تسمية المخابرات) المرحوم قاصدي مرباح، الذي بقي طويلا على رأس هذا الجهاز وكان يحظى بثقة لا نظير لها من قبل الرئيس الراحل خالد الذكر هواري بومدين رحمه الله. خرج قاصدي مرباح من «الأمن العسكري» إلى (مجرّد) وزير فلاحة. ظنّ الجميع وحسب (كما هو الحال اليوم) أنّ الشاذلي بن جديد يفعل (ما يفعله بوتفليقة اليوم) من تفكيك لهذا الجهاز واعادة ترتيبه وفق نظرية السيطرة والتمكّن منه.
عادت المخابرات إلى عصر ذهبي جديد مع محمّد مدين (الجنرال توفيق) وصارت اكثر من أسطورة، وصار زعيمها أقرب إلى زعيم طائفة، حين فضّل السريّة والابتعاد عن الأضواء وبقي متخفيا عن الأنظار والإعلام.
يبدو للوهلة الأولى أنّ «مغادرة» (الجنرال) توفيق تأتي أقرب إلى «هزيمة» الرجل، أمام القرار المدني/الرئاسي، لكنّ هذا «الداهية» استطاع ليس فقط أن يلغّم المنظومة بأكملها، بل كمثل «متاهات الاغريق» أغلق «المخابرات على نفسها» حين قصف بالأسلحة «الثقيلة» كلّ الذين أرادت «دوائر بوتفليقة» جعلهم مكانه من خارج «الجهاز»، فكان «طرطاق» الحلّ الذي أرضى به توفيق «كرامة خصومه» وكذلك «أغلق به المتاهة على ذاتها»…
مجيء طرطاق (الابن الأكثر شرعيّة للجهاز) أسّس لمنطق يستحيل الحياد عنه في المستقبل لأجيال: الجهاز هو من يصنع زعاماته، ومن ثمّة على القرار «المدني» أن يقبل بمن يزكّيه هذا الجهاز أو في أحسن أحواله (افتراضًا) أن يختار بين «أفضل» من يرى…
ربح الجهاز بمغادرة توفيق ومجيء البشير على مستويين:
أوّلا: تفادي حربًا مجانيّة كان الجنرال توفيق يتفاداها بل عبّر قبل سنتين عن رغبته في المغادرة بالترتيبات التي يريدها، حين يأتي خلفه (في الآن ذاته) «ابن الماكينة» وكذلك «حليف القصر الرئاسي»
ثانيا: على خلاف سابقه الجنرال توفيق الذي كان يهتمّ بالجانب العام والسياسي للملفات المطروحة أمامه في جانبها الجملي والشامل، بل يغضب ممّن يروي له التفاصيل، يأتي الجنرال بشير أقرب إلى الميدان وصاحب قدرة كبيرة على متابعة التفاصيل ومواكبة الأحداث، بل يمكن الجزم أنّه من أفضل الخبراء بالجماعة الارهابيّة، سواء على مستوى المعرفة بالأسماء والأحداث أو القدرة التحليليّة.
ثالثًا: بتغيير التسمية تخلّص الجهاز من جزء غير هيّن من الإرث (المسكوت عنها) خصوصًا فترة «العشريّة السوداء» التي انتهت بهدنة عسكرية تحولت إلى «وئام وطني»…
رابعًا: مرض الرئيس بوتفليقة، يجعل من الجنرال طرطاق ومن جهازه (مهما كانت التسمية) أحد أهمّ الفاعلين على مستوى صناعة القرار السياسي، سواء من خلال التقارير المرفوعة أو على مستوى صياغة نظرة مؤسّسة الرئاسة إلى الفاعلين (الجدد) على الساحة السياسيّة.
مهما تكن التسمية التي ستعوضّ «دائرة الاستعلام والأمن» التسمية القائمة والمعروفة باختصار تسميتها الفرنسيّة DRS إلا أنّ الوقع ذاته سيكون في النفوس، بعد أكثر بكثير سواء حين تخلصّ الجهاز من «النيران الصديقة» أو بفضل «شخصيّة زعيمه» البشير طرطاق الأقرب إلى الحسم السريع في أسلوبه، من «طول البال» الذي كان توفيق يعمل من خلاله….
على المستوى الداخلي، لن يطول الزمن قبل أن تعود الصلاحيات القديمة إلى الجهاز الجديد (بأي صفة كانت) لأنّ من عادة القرار الرئاسي الجزائري المطالبة بالنتائج قبل «النظر في التفاصيل» وثانيا يأتي طرطاق أقرب إلى الحسم مع «الجماعات الارهابيّة» ممّا يعني أنّ الجهاز سيذهب أكثر في محاربة هذه «الجماعات» سواء داخل الجزائر أو خارجها، ليس فقط باختراق وجمع المعلومات، بل بالسعي إلى تدميرها فعلا ودون انتظار…
السؤال الأهمّ الذي يبحث عن جواب، يبقى على مستوى «الجبهة الداخليّة» حين تأتي سنة 2016 صعبة بانخفاض مداخيل النفط، ليكون السؤال عن دور الجهاز ليس فقط في قياس نبض الشارع كما كان يفعل (في العادة)، بل عن دوره في الأحزاب والنقابات والجمعيات، التي عمل توفيق على اختراقها جميعًا. هل ستكون سياسة «الاختراق» مجدية أم وجب ابتداع «نظريات جديدة».
على المستوى الاقليمي، وهو الملفّ الحارق أيضًا، تبدو شخصية طرطاق أكثر صداميّة وأقرب إلى المواجهة مع الجهات التي «لا ينسجم مزاجها» مع القرار الأمني الجزائري….