بقلم: حاتم التليلي محمودي
ما الذي يدفع بهؤلاء إلى رجم افتتاح مهرجان قرطاج السينمائيّ؟ ولماذا علت أصواتهم «الغضبيّة» بشكل عدميّ حتّى أنّه إلى حدّ الآن لم نقطف ولو دراسة أو مقال يتساءل عن أسباب ذلك؟ ألا يعدّ ذلك ضربا من ضروب التصدّي لسياسات المنعطف الفنّي؟ وألا يمكن القول إنّه من باب الخراب واللصوصية والعزاء أن يتحوّل مهرجان سينما الجنوب والمقاومة إلى مجرّد فضاء أرستقراطيّ تتكدّس فيه بضاعات فنّية كما لو إنّنا مجرّد تجّار في محفل الجشع الرأسماليّ؟ ما طبيعة هذا الاحتجاج المعلن من قبل شرائح شبابيّة متعدّدة الاختصاصات، حتّى أنّه لا يوجد بينهم من له أدنى صلة بالفنّ السينمائي؟
إذا كان إامتياز هؤلاء المتهكمين لا يتخطى كونهم يجلبون الانتباه إليهم فحسب، بعد أن ركلتهم أقدام بارونات الفن وأقصتهم، فالمفترض بهم ـ نظرياـ أن يتموقعوا في منطقة الرّائع العملي بحدّ عبارة «نيغري». لكن ما نحصده من أفواههم لم يتجاوز قدرتهم المدهشة على التدليل بأفول الهالة الفنيّة مثلما ذهب إلى ذلك بنيامين، إذ ثمّة عاصفة هوجاء من السخرية، لا تخلو من حقد ومقت، كما لا تخلو من رغبة كبيرة في الاحتجاج على ذلك السوق السينمائي، حيث أرطال من لحوم الفنّانين المعروضة للبيع، بما يجعل من الجسد محض بضاعة رخيصة في لوحات اشهارية، يدعو إليه كبار المخرجين والمنتجين بغاية قطفه.
لقد أكّد هؤلاء، منذ ما قبل هذا المهرجان، أنّ السياسيين والإعلاميين والنقابيين وكلّ الرجالات الذين يمسكون بصفة الزعامة بعد ثورة مغدورة، محض خردة بشريّة تحترف اللصوصيّة، فحطّموا كلّ رمزيّة لها، وفق ضرب من الكوميديا الساخرة واللاذعة. إنّهم يبتكرون احتجاجهم الخاصّ فصار أن واجهوا كلّ أشكال «التشيئة» [أيّ جعلهم مجرّد أشياء] والتدجين والتهميش بتهميش مضادّ، واستهتار لا يخلو من مبالاة. ومن باب المجاز اللغويّ: إنّ هؤلاء هم رماد غزالة الفينيق منذ سياسة الرومنة التي واجهها أوّل رجل يؤسس حرب العصابات في العالم «تاكفاريناس» الأمازيغيّ، إذ بعد تدمير قرطاج وسبي هالتها منذ الحرب البونيّة الثالثة، كان أن جدّ الملح كلحظة عقم في أرض الآلهة تانيت.
ما يفوت البعض، أنّ هؤلاء أيضا جيل جديد، ينفتح عن العالم برمّته، وأن يجد نفسه تحت سلطة غدرت بثورته، فمن الطبيعيّ أن يلتجأ إلى حقل غضبيّ لا محرّك له غير الغضب، وأن يتمّ إقصاءه أو تهميشه، فمن الضروري أن يلج مناطق التهكّم هذه، وقد يصل به الأمر أيضا إلى إقامة «لا وعيّة» في حقول العدميّات المعاصرة.
إنّ مرمى صحراء الخراب هذه، لا يمكن أن ينفصل أبدا عن مسارين: الأوّل جماليّ، أمّا الثاني فهو سياسيّ لا غبار عليه، وقد يلقي بظلاله على باقي جميع المهرجانات القادمة، فحالة «ما بعد الحديث» التي أصابتنا بعد سيرة من الانفجارات الاجتماعية والثورية، والتي أكّدت لنا، دون سابق إنذار، أفول السرديات وانهيار القيم، تمكّنت من جعل جشع السّوق يطال ما هو ثقافيّ بما في ذلك الفنّ، إلا أنّها ـ للأسف ـ لم تخوّل له نفي تراتبيّة الذّوق رغم محو ما يعرف بالاحتكار الفنّي بجعله متاحا للجميع، وبإزاء هكذا قحط حداثيّ سيصبح من سديد القول أنّ أيّام قرطاج السينمائية ـ بما أنّها تحوّلت إلى محض أسواق تتكدّس فيها البضائع بضرب من التشيئة ـ ظلّت حكرا على أطراف معيّنة، هم طبقيّا أعداء أولئك المتهكّمين.
هل علينا الآن تغذيّة سياسات الرّجم والرّفض العدميّ لهؤلاء أم التسليم بأفول الفنّ؟ وهل علينا الصمت بضرب من الانتظار وفي مقابل ذلك نسبّح باسم ذلك البهرج الاستيطيقي لأولئك الكبار أم احداث انقلاب شرعيّ في حقل الجماليّات برمّتها؟
يبدو أنّ أسئلة كهذه لن يشفينا من مرارتها غير المفكّر الايطالي «أنطونيو نيغري» بعد أن رفع الرّائع وحمله من الجماليّ إلى العمليّ، وذلك من خلال الوعي بأنّ المشترك إبداعيّا صار يسبقنا، بما هو أمامنا ـ فقط علينا الانتباه له ـ وبالتالي، ضرورة أن تكون ملكيّة الفنّ بيد الجموع في اطار تصادمها مع السلطة. لقد ساهمت السّوق في جعلنا نعيش يبابا انطولوجيّا وعصرا لا إنسانيّا، ولكنّها منحتنا امكانيّة التحدّث عن المشترك على أن يكون لنا الوعي بهشاشته إزاء ما يقدّم لنا، وفي هذا الإطار، يدفعنا نيغري إلى التساؤل عمّا بوسع الفنّ أن يفعل، هل يتخّذ حالة «الخردة الإبداعيّة» كسلاح في يد الرّجعيين أم عليه تخطّي حالة السّوق كي يتخذ صفة «الايتيقا» والاقتدار في ذات اللحظة.
في هذا الإطار، حريّ بنا الإشارة أوّلا عن المغزى أو الدافع الذي جعل نيغري ينحو بالرائع إلى ما هو عمليّ ويمنحه للجموع، وفي تقديرنا إنّ ذلك عائد إلى «الكوجيطو» الرّاهنيّ وقد تحوّل إلى «دوغم» من شريعته أنّه قدّم تأبينا ميتافيزقيّا للفنّ عبر القول بأفوله، ذلك أنّه تحوّل إلى محض بضاعة مكدّسة في الأسواق على يد أولئك الرّجعيين ـ التوصيف ها هنا سياسيّ واقتصاديّ بحت، أمّا جماليا فهو بهرج اسطيقيّ ـ ما يدفع ضرورة إلى إعادة احياء هذا الفنّ على يد الثوّار أو ما أطلق عليهم هذا الفيلسوف تسمية ـ الجموع ـ بما يجعل الاسطيقا تحمل لفظة الرّائع، والفنّ ضرب من اللعب الجماعيّ بغاية التحرّر.
على هؤلاء إذن، الذين كانوا سبّاقين في صناعة الفرجة الغضبيّة إزاء سيرة الثورة، حيث وجدت تحقّقها الفنّي والفرجوي من خلال العديد من الأشكال التعبيريّة، والتي وجدت صداها في الوسائط الافتراضية والتكنولوجيّة، كما عبرت المحيطات لتلتقطها شعوب أخرى، أن يبدلوا أجهزة مدارات غضبهم، فبمجرّد حديثهم عن البهرج الاستطيقي لمستنقع الرجعيين يجعل منهم محض ضفادع كئيبة أو مجرّد طريدة سهلة في فخاخ العدميات، وأن ينتفضوا من رماد غزالة التانيت حتى تظلّ آلهة خصب وانبعاث حقيقيّ لا محض أسطورة غابرة في تاريخنا.
48 تعليقات
تعقيبات: hermes bracelet replica
تعقيبات: cheap nike roshe run
تعقيبات: Cheap Moncler Moka
تعقيبات: cartier love bracelet replica
تعقيبات: Red Bottoms Replica