مثلما كان وزير الداخليّة الفرنسي عند اندلاع ثورة نوفمبر المجيدة غبيّا، بل عاجز عن الفهم، عندما نعت «الثوّار» حينها بالإرهاب، لا يقلّ عنه غباء أويحيى وسلاّل وبوشارب، عندما وقف هذا الثلاثي أمام مظاهرة يوم 22 فيفري دون وعي أنّ المسألة لا تعني التفاصيل والفواصل والجزئيات، بل هي معادلة نفي شاملة أساسها (في أقلّ الحالات) رفض ترشّح بوتفليقة لعهدة خامسة، و(في الأقصى) رفض النظام بكامله، كما رفض قادة الثورة الوجود الفرنسي من أساسه.
من ذلك، لا يمكن لما هي «الديمقراطيّة»، أو بالأحرى «الإقتراع»، أن يشكّل الفيصل في بعده الكمّي، أي حساب عدد الأصوات، كما اقترحت الحكومة الفرنسية حينها على قيادة الثورة، وكما قال سلاّل وأعلن، بل هي معركة بقاء أو هو صراع وجود، يخصّ ويتعلّق بالمفاهيم المؤسّسة للدولة في أبعادها الفكريّة وأدواتها التطبيقيّة. لذلك جاءت العلاقة عبارة عن نفي متبادل، حين لا يمكن الذهاب في «نقاط تقاطع» بين الطرفين تشكّل قاعدة تصالح، دون البتّ، أو تنازل أحد الطرفين، حين لا يمكن كذلك، أن نتخيل هذه الجماهير الهادرة، والمتدفّقة بالملايين وقد انقلبت من الرفض القطعي إلى القبول والتسليم أو هو التراجع إلى ما قبل يوم 22 فيفري.
هو صراع بين سلطة قائمة ونظام كامل الشروط الماديّة أي ماسك للمال والسلاح من ناحية، مقابل كائن هلامي، دون قيادة، بل هو التوافق حول أبجديات رفض العهدة الخامسة (في أدنى الدرجات)، وكذلك طاقة كامنة هائلة، تملك قدرة النزول إلى الشارع ما لزم الأمر وما هو ضرورة طعنا في هذه العهدة (الخامسة)، ورفضًا لأبجديات يسعى النظام الحاكم لجعلها في مقام المقدّس.
يمكن الجزم دون أدنى شكّ، على المستوى الاستراتيجي أن الجزائر دخلت مرحلة «ما بعد بوتفليقة»، حين لا يمكن للنظام القائم، أن يدفع ثمن «المواجهات» المنتظرة في حال ترشّح عبد العزيز بوتفليقة، ولا قدرة لكامل «الحزام الماسك» لوجود الرئيس ومن معه في السلطة، أن يرضى بدخول البلاد دوّامة، لا أحد يمكنه التنبؤ بمخرجاتها، خاصّة (وهنا الأهميّة الفاصلة)، لا يطرح المتظاهرون أنفسهم «سلطة بديلة» بالمفهوم العضوي والمباشر، وإن تحدّث العديد من الصحفيين والمثقفين وحتّى من سياسيي المعارضة (غير المعنيّة بالسلطة) عن وجوب «تغيير النظام» بمعنى القطيعة الوظيفيّة، والبتر العضوي، مع منظومة بوتفليقة الحاكمة في الجزائر راهنًا.
من ذلك، سيأتي التغيير، مثلما كان الحال بُعيد أكتوبر 1988، من داخل السلطة، حين يمكن الجزم أن حراك الشارع راهنًا يشكّل الشرارة الذي أشعلت صراع الاجنحة، والتراكمات المزمة وقود المرحلة، ليكون بالتالي «البديل» من داخل ذات «النظام»، مع ما هو قائم راهنًا من «جبهات قتال» داخل هذا «النظام» وأساسًا خروج الصراعات بهذا الكمّ (لأوّل مرّة منذ الاستقلال) إلى العلن، سواء داخل «منظومة بوتفليقة» (تعدد الأجنحة وعجزها في العثور على بديل)، أو بين هذه المنظومة بكاملها وبقيّة المنظومات أو بالأحرى المنظومة الأقوى والاهمّ، التي يمثلها «علي غديري». منظومة قائمة داخل الدولة وهي جزء منها وفي الآن ذاته هي خارج مناطق النفوذ الأولى، أيّ السلطة الماثلة أمامنا، وإن كانت متغلغة في أحشاء (هذه) «الدولة»…
هي سيناريوهات تتكرّر منذ اندلاع الثورة التحريريّة، مع فارق هامّ، وأكيد، بل حاسم، وربّما فاصل على مستوى جدليات الصراع داخل النظام: صار ارضاء هذا «العمق الشعبي» شرطا أساسيا لقيام سلطة بل لوجودها بالمفهوم الشرعي، لذلك لا يمكن التنبؤ بأيّ تتحوّل في طبيعة النظام خارج (هذا) «الوعاء الشعبي»، الذي حاول بوتفليقة (أو المنظومة المحيطة به) رشوته بالرفاهيّة والسكن، وتوريد الكماليات، خدمة لبارونات تجارة التوريد وأرباب المال في البلاد.
ما (قد) يعطّل «معادلة التحوّل» بل (قد) يهدّدها، استقالة أو غياب «الوسائط» القادرة على لعب دورها في صياغة القرار السياسي، أيّ الأحزاب بجميع ألوانها، وكذلك النقابات، القادرة على لعب هذه الأدوار، ممّا يعني أنّ على هذه الجماهير الهادرة أن تصنع «أحزابها» من جديد، أو تعيد هيكلة القائمة منها. في الحالتين، تتطلّب المعادلة والسيرورة مجالات زمنيّة وكذلك من الظروف الموضوعيّة التي تتطلب تغيرات على مستوى البنية الذهنيّة للنخب القائمة على هذه «الوسائط» الحزبيّة والنقابيّة.
ميزة هذه الجماهير الهادرة أنها تدرك ما ترفض جيّدا، وتملك وسائل أو بالأحرى وسيلة الرفض أيّ الشارع، الذي ذاقت «لذّته» وأدركت «جدواه»، لكنّها تعبّر عمّا تريد بأصوات مختلفة بل متناقضة أحيانًا وفي عجز عن قدرة المرور من التعبير إلى التجسيد، خاصّة وأنّ الأحزاب والتنظيمات السياسيّة التي جاءت متأخرة على مستوى الوعي وكذلك القدرة التنظيمية، لا يمكنها أن تمثّل «البديل» الموضوعي أو حتّى «الوسيط» العضوي، بل هي تحاول وستسعى لتصريف خلافها مع النظام حولة «كعكة السلطة» في صورة القطيعة التي تجعلها موضوعيا بل ووظيفيا في صفّ (هذه) «الجماهير» الهادرة والقادرة على تغيير المعادلات، إن لم نقل قلبها.
سهل على النظام أن يتخلّى عن بوتفليقة (الشخص) ومن اليسير استبعاد (المنظومة التي استفادت من الرجل)، لكن رهانات السلطة القادمة أو التي هي على وشك استلام السلطة قريبًا، تحت غطاء «ديمقراطي» ليس فقط أن تقطع مع ممارسات «منظومة بوتفليقة»، بل في انجاز ما أخفق عنه حين دخلت خزينة الدولة أكثر من مليار دولار (خلال عشريّة واحدة من حكمه)، دون أن تتراجع نسبة المحروقات من الناتج الوطني الخام.
شكّلت صورة بوتفليقة القعيد على كرسي متحرّك الشرارة التي أشعلت لهيب هذا العمق الشعبي، لكنّ الوقود تكفّل به إحساس قطاعات واسعة ومتزايدة من العمق الشعبي، بأنّهم خارج «دائرة المنافع» التي توزعها الدولة دون عدل اجتماعي، ممّا يعني أنّ على «النظام» الذي بصدد الصعود أن يضع في الحسبان، أوّلا أنّ «خدعة ما بعد أكتوبر 88» لن تنطلي من جديد، وأن «الرشوة الاجتماعيّة» التي اعتمادها بوتفليقة عبر قروض «أنساج» [قروض للشباب العاطل بنسبة فائض تكاد تكون منعدمة] تأتي أشبه بالمخدرات التي تملأ البلد، بمعنى أنّ نفوذها محدود بل تؤدّي إلى الإدمان وطلب المزيد، وهو ما لم يفهمه سلاّل، حين توهّم أن شعب الجزائر الذي أنجز أحد أهمّ ثروات القرن العشرين، لا يعدو أن يكون ذلك الجمع من «الفقاقير» [جمع فقراء في قاموسه الخاص] الذين يمكن رشوته بصاع من الشعير، على حدّ قول كسرى أنو شروان عن «الأعراب»، الذين هدموا عرشه…