حاتم التليلي محمودي
علينا الاعتراف أنّه ثمّة ضرب من العار المسرحيّ يلاحقنا جميعا، وعلى الرّغم من أنّنا نعترف بذلك إلاّ أنّه لا أحد أقرّ بخجله لسبب ما نعرفه، ولكننا لا نصرّح به أيضا، إذ أنّ مجرّد الاعتراف بذلك من قبل مبدع ما، سيعطي الشرعيّة لآخر كي يدينه، وكأنّ هذا ـ الآخر ـ وحده من يرفع صليب الابداع والحال أنّه أشدّ مضض من السيف على المسرح، وربّما يكون بريئا، بريئا لأنّه لم يجد فرصته في القتل وهذا كلّ ما في الأمر.
من باب الموضوعيّة، لا يمكن أن نكون عدميين كي نقول ليس ثمّة نقّاد أو مبدعين، ولكن ثمّة أيضا مجموعة هائلة من القصّابين، أولئك الذين ينظرون إلى الفنّ المسرحي كما لو أنّه أرطال من اللحم يتمّ اقتطاعها وتوزيعها بما يلائم حصّة هذا أو ذاك، والغاضبون في أغلب الأحيان لم يتبقّ لهم من أرطال العِجْل المسرحيّ غير قرونه التي لا تصلح لغير الطعن.
إزاء هذا الأمر، لم تعد ثمّة قراءة تفاعليّة/تشاركيّة، بل ثمّة معارك لقلع الأسنان، وغالبا ما تكون مقصودة للأسف، ونتيجتها خراب حتميّ لأزمنة المسرح ومراكماته، ذلك أنّنا نفتقد فعلا لحسّ حواريّ يتحرّك ضمن مجالي الهدم والبناء، بوصفهما الرّحم الخالص للفعل التجاوزيّ.
ثقافة القتل هذه، نراها جليّا الآن فيما يكتبه البعض من المسرحيين على شبكات التواصل الاجتماعيّ إزاء العرض الأخير لرجاء بن عمّار، إذ ذهبت الأغلبيّة إلى ما يشبه رفع السواطير وحمل السلاح، وهذا أمر جرّدها عن الفعل النقديّ وأسقطها في حقل من السبّاب والشتم والهجاء، فكانت حدودها أخلاقيّة لم تتناول العرض تفكيكا وتشريحا وإنّما حاولت بشكل أو بآخر تجريم حتّى ممثّليه. ولم يكتف البعض بذلك فحسب بل وعمد إلى توظيف بعض الجراحات النقدية ـ من خلال ما تمّ تأكيده من مواطن الانتحال في العرض ـ وفق ما تريده مآربه الشخصيّة.
- كتب المسرحيّ توفيق الجبالي متوجّها بخطابه إلى مدير المهرجان الدولي بالحمامات، السيّد معزّ المرابط، ومضمونه تحيّة ملغومة يريد من خلالها أن يذكّره بمعركة قديمة ركيزتها الأساسية المسرحيين الهوّاة. وهذا سلوك يدلّ على أنّه بافلوفيّ بامتياز، إذ يجعل من عرض رجاء بن عمّار حصان طروادة من خلاله يدين مدير المهرجان، وبهذا الشكل يكون السيّد الجبالي قد طعن نفسه مرّتين، الأولى حين لم يذهب إلى تحليل ذلك العرض نقديّا بل شغّله من باب النكاية والشماتة، والثانية حين اتجه إلى إدانة الدكتور معزّ مرابط، بيد أنّ الحقيقة تقول بأنّه ثمّة الكثير من العروض الناجحة والجيّدة ستشهدها فعاليات مهرجان الحمامات، وبالتالي فإنّ فشل الافتتاح لا يعكس بالضرورة فشل المهرجان.
- عطفا على ما كتبه الجبالي أيضا، ثمّة في خطابه نزعة تحقير موجّهة للهوّاة، فهو بعد أن اشتعل معهم في استديو التياترو (150 مشاركا كما قال بنفسه) ودافع عنهم، ينظر إليهم الآن كخزينة من سلاح لا لشيء إلا لكي يصل إلى هدفه والمتمثل في ردّه على معزّ المرابط، أي أنّه لم يتجاوز تلك الدائرة من المعارك، بما يجعله أحد القصّابين لا أحد النقّاد.
- ثمّة نزعة أخرى، نراها في شبكات التواصل الاجتماعي، بغضّ النظر عن ذلك السقوط المدوّي لعرض رجاء بن عمّار، تمثّلت في الحديث عن الطاقات الشبابية من حيث توصيفهم كطريدة سهلة وضحيّة لأولئك «الكبار»، وهي نزعة إن كانت في ظاهرها تعلن التعاطف معهم، فإنّها تخفي في مضمونها نوعا من التوظيف السلبي بجعلهم سلاحا جديدا من خلال تتمّ تصفية حساب «الكبار» فيما بينهم. الأنكى من ذلك، ثمّة مهزلة نقديّة نعرّج عليها الآن، تتغنّى بمفاهيم من قبيل «التجارب الشبابية الصاعدة» في مقابل «تجارب الجيل الذي سبقهم»، بما يحيلنا إلى أن الابداع أصبح مقترنا بالفئات العمرية لا مموضعا ضمن خيارات جماليّة وتيارات فنّية مختلفة، وهو أمر لا يمكنه إلا أن يولّد حقدا أخلاقيا لا يخلّف بدوره غير فراغ في شكل حلقة تظل مفقودة في سيرة المسرح ومراكماته. إنّنا نتيجة معارك من هذا القبيل، تترك الفعل النقدي جانبا وتغمّس أحقادها في الدمار، لا يمكننا إلا أن نصل إلى نتيجة مفادها ذلك العزاء المسرحي: عنوانه تأبين ميتافيزيقي يحوّلنا إلى كهّان وأخلاقيين.
- من المفارقات أيضا، أن نقرأ في شبكة التواصل الاجتماعي تلك المواقف الانطباعية التي تتحدث عن مراكز التكوين المسرحي ومدارسه، بوصفها محقّقة لضرب من الخصي الابداعي وملجمة للطاقات الشبابيّة إذ تتعامل معهم بمنطق الاستثمار لا التكوين، وهو أمر وإن كنّا لا ننكره، فعلينا أن لا ندينه ونحوّله إلى محض اسطوانة نلوكها بغاية التندّر والتهكّم كما نرى، وإنّما لماذا لا نشير إلى مواطن الضعف فيها ونحاول قدر الممكن في أن تكون تلك المراكز محفوفة بغير قليل من الندوات والدراسات النظرية ممّا يجعلها أسمى ممّا عليه الآن. ندرك فعلا أنّه مجرّد اقتراح قد يضحك معترض علينا، ذلك أنه يعرف مسبّقا أن المشرفين على تلك المراكز سيضحكون قبله وهم يستمعون إلى اقتراح كهذا، لكن أين يكمن السبب في ذلك؟
- إنّه ـ السبب ـ ينبت من هذه المعارك، أجل ففي ثقافتنا لا ينبت غير القتل، إنّ القصّابين فقدوا ثقتهم فيما بينهم، كلّ منهم الآن يجرّد سيفه بعد أن تحوّلت سيرته الابداعية إلى ما يشبه الفوبيا من الآخرين: هكذا ينمو فيروس الانقراض داخل مفاصل الجسد المسرحيّ.
في المقابل، تطرأ الآن تراجيديا جديدة، عنوانها «قتل الأب»، ومنبتها بعض من هؤلاء الشباب، ويا لوطأة السخف، إنّ الابن يتجه بكل ما أوتي من عدميّة إلى قتل أبيه لا بغاية كنس دم المعارك القديمة بتغميس الحبّ في تربة الإبداع، وإنّما بغاية احتكار امتيازات ذلك الأب فحسب. ثمّة شباب نراهم الآن يمتلكون قدرة فزعة على «تمييع» كلّ شيء، وطاقة مرعبة على «مهزلة» الأشياء، هم الآن فيروسات جديدة لا تحقّق مستقبلا غير مزيدا من انسياب الدمّ، ذلك أنّه بعد أن تمّ افراغهم من كلّ حسّ نقديّ من خلال التلاعب بهم في معادلة من تصادم الكبار، أيقنوا حصّتهم لا محالة من ذلك الانقراض، فلم يعد يخجلهم أبدا تطاولهم على الكتب والبحوث النظرية وأساتذتهم، إذ لا محرّك لهم الآن غير شهوة القتل.
يعلق الاستاذ حاتم بوجاهة عن سياسة العنف الذي بسم الشباب ويخلص إلى ردة فعل بها خصب على طريقة كرونوس تجاه أبيه…
انتصر ااتلبلي الموضوعية ولكن الحق سببه بتار