لم تفهم قيادات النقابات الأمنيّة التي استعرضت قواتها اليوم في القصبة، أنّ قيمة «الردع» تكمن في التلويح به والتهديد باستعماله، وليس في طرحه وتقديمه أمام العلن والعموم بالمجان (كما جدّ اليوم).
هم من مدرسة نشأت وتربّت زمن بن علي، الذي لم يكن (في الداخل) في حاجة للكثير من «التلميح»، حين كان «صانع التغيير» يدفع بالمدفعيّة الثقيلة بغية القضاء على نملة.
لم تطالع قيادات النقّابات الأمنيّة التاريخ، بل هي عديمة العلم به، لتعلم أنّ الدولة (بالمفهوم التاريخي) لم تضع أبدًا جميع «البيضات» (الأمنيّة) في سلّة واحدة، حين فرقتها وجعلت بينها من التنافس والصراع ما يجعلها في «عداوة» مع بعضها البعض، ليكون هذا رادعًا لذاك عند الحاجة…
لم تطالع قيادات النقّابات الأمنيّة، علم «الكيمياء»، لتعلم أنّ من المعادلات الكيمائيّة ما لا يقبل الانجاز في الاتجاه المعاكس، ومن ثمّة مهما حاولت هذه القيادات التبرير أو هو التفسير، أو (كما يقال عادة) «قراءة المشهد في نسقه» إلاّ أنّها عاجزة عن إيجاد مبّرر واحد مقنع لما تمّ من اجتياز «للخطّ الأحمر» (حقيقة)، عندما تجاوزت الأسلاك الشائكة أوّلا، وهو الخطّ الأحمر (السياسي)، وعندما رفعت «شعارات سياسيّة»، ممّا يعني أنّها «أكثر من نقابات»، ومطالبها «أرقى» من المطالب النقّابيّة…
المسألة في بعدها «الاعتباري» لا يمكن أن تعني أو تخصّ «البعد الإخباري»، أيّ ما جدّ وما وقع، ومن فعل ماذا، بل أساسًا، تشمل بل تؤكّد على «الأبعاد الرمزيّة» لوقوف الأمنيين أمام قصر الحكومة، سواء الوقوف ذاته، أو «اقتحام الفضاء الخاصّ» أو «الولوج إلى داخل القصر»…
أخطر ما جدّ، بل هو «المحرّم ذاته» (مهما تكن التفاسير ومهما تأتي التبريرات) أنّ «رجال أمن» سمحوا لأنفسهم ما هو ممنوع على «العامّة»، أي تجاوز «الخطوط الحمراء»، ممّا يعني أنّ (هذه) «القيادات النقابيّة»، سواء خطّطت لذلك أو جاء القرار وليد اللحظة أو هو من «فوضى الزحام» أو (مجرّد) «غليان»، أو من فعل «عناصر مدسوسة»، فهي أعطت لنفسها «حريّة تجاوز قرار سياسيّ»، ممّا يعني أنّها «تمارس السياسة» أو (وهنا المصيبة) تضع نفسها فوق «القرار السياسي»، ليكون «التفسير» (الأوحد والوحيد)، أنّها تمارس «دورًا انقلابيّا»، سواء جاهرت بالشيء أو هي نفته أو ربّما أدانته ورفضته، لأنّ الأمور بعواقبها والمسائل بمنتهاها، لا بالنوايا المنقوصة والتمنيات الناقصة.
أخطر ما في المسألة، عمليّة خلط الأوراق وقلب موازين القوى، بل استحداث علاقة جديدة، بين القرار السياسي من جهة في مقابل «القرار (الأمني) النقابي»، حين لا يمكن (بل يستحيل، إن لم يكن من سابح المستحيلات) لهذه «النقّابات» أن يكون المنخرطين فيها ممّن «يحفظون الأمن العام» وفي الآن ذاته يقدمون على «قرارات ثوريّة» أسوة بما كان أثناء «القصبة 1» وكذلك «القصبة 2».
من هو شريك في حمل السلاح ومسك الأمن وحفظه، اختار مقامه وتخيّر موقعه ولم يعد بإمكانه أن يلعب على «التناقضات» أو هو يدور في هامش «الغموض» أو يتّكل على «عامل القوّة» خارج شرعيّة القرار السياسي، لأنّ «مسك اللحظة التاريخيّة» (الفارقة) في الثورات، وهو ما عجزت عنه جميع الحركات الاحتجاجيّة منذ 14 جانفي، يتطلّب «مشروعًا سياسيّا» (بديلا) وكذلك «قيادة سياسيّة» (بديلة).
الخطأ القاتل الذي ارتكبته «قيادات النقّابات الأمنيّة» أنّها تجاوزت «مستوى الاحتجاج الطوبائي» إلى التحرّك المادي المناقض أو هو «الكاسر للقرار السياسي» دون أن تملك «المشروع» أو «القيادة» ممّا يعني (وهنا المصيبة) أنّها «قوّة انقلابيّة» وفق جميع «القواميس والمعاجم» (السياسيّة)…
لم تفهم «النقابات الأمنيّة» وخاصّة قياداتها التي نشأت ضمن الطاعة والانضباط والتنفيذ، ولم يكن لها من «هامش تفكير» سواء «بعض الغرائز» (العابرة)، أنّ «القوى الثوريّة» تكرهها وتعتبرها من أدوات «الثورة المضادة»، في حين أنّ «الدولة العميقة» (أيّ «الثورة المضادة») ترى في هذه «النقابات» مجرّد نتاج جاءت به «الثورة» وعليها (أيّ النقابات) أن ترحل معها، وتعود «الآلة الأمنيّة» إلى «عادتها القديمة» من تنفيذ وطاعة وانضباط، مع هامش من «التنفيس الغرائزي» (أيّ «تدبير الرأس» الفردي لا غير)…
يستحيل على «القوى الثوريّة» (التي أصبحت قناعة أكثر من «كتلة تاريخيّة») أن تنسى ثأرها مع هذه «النقابات» ويستحيل على «الدولة العميقة» (القائمة على مركزيّة القرار) أن تتقاسم قيد أنملة من «صلاحياتها» مع هذه «النقابات»، ممّا يعني بالمحصّل الطبيعي والنتيجة المنطقيّة، أنّ «النقابات» وقياداتها على وجه الخصوص، ستكون أشبه بذلك «اليتيم على مأدبة اللئام»، ليشتدّ عليها الساسة والإعلام، لنصل إلى ما وصلت إليه البلاد (عديد المرّات) بفعل تكالب الإعلام وغلبة السياسة، إلى أن يصبح حلّ هذه «النقابات» مطلبًا «شعبيّا» ستخرج من أجله الجماهير إلى الشوارع….
الذي أنشأ النقابات، جعلها مشوّهة عمدًا، لتؤدّي دورًا وتنفّذ مشروعًا وتغادر المشهد، لأنّ وجود «نقابات أمنيّة» (مهما كان دورها ومهما تكن وظيفتها) يمثّل «نشاز» على جميع المستويات، المشهد القديم (العائد) يريدها قوسًا يسهُل إغلاقه، والمشهد «الثوري» (الطوباوي) الغارق في الاستمناء الخيالي، يريد غلق القوس، بل يبغيه ليواصل الحلم بأنّ «الثورة مستمرّة»…
كلّ شيء معدّل ومعدّ سلفًا، فقط مسألة وقت لا غير…
ان النقابات الأمنية أتت في متكأ ضعف للدولة وسلطتها السياسية والقصف الاعلامي ال>ي عرفته خاصة في فترة الترويكا
أما اليوم فمن فتح الباب للأفعى عليه إعادتها لداخل القارورة – وهي تحاول يائسة افتكاك مشروعية مهنية وشعبية الى حين.
ان مفهوم الدولة وأدوار السلطة التنفيدية فيها يتخلخل جراء هده العروض الاعلامية والمشهدية ويؤدي دورها الردي خاصة وهي تقوم بتجميع الصفوف وتقوية الشوكة لمقاومة الارهاب والتهريب والعنف الاحتجاجي والجريمة المنظمة والمستتر منها خاصة. إن الحركة الاستعراضية العللنية ل”التشكل المطلبي المادي والاجتماعي، المتطور لنواتاة نقابية” لا يملك مشروعية تهديد السلطة المشرفة عليه ولو تم” فنحن بصدد مسار انهيار عميق لمفهوم الدولة.
الأمر اللحظة مناط بقرارات شرعية من رئاسة السلطة التنفيدية مسنودة باستفتا شعبي للقضاء على التشكيلات النقابية لانها بكل بساطة أصبحت شكلا من “الإرهاب الداخلي الساكن منازلنا عوض أن تتشكل مجموعات مدنية للدفاع الداتي تساند القوى الامنية والعسكرية المرابطة على أقاصي البلاد.
تبقى مسألة المطالب الاجتماعية والمادية التي تعالج حسب الظرف الاقتصادي للبلاد وحسب جدول أولويات المكافأة الاجتماعية لمجهودات مقاومة الارهاب واسناد الانتقال الديموقراطي مع ضرورة اعادة النظر في الدربة على العقيدة الامنية المستحدثة ” الدفاع عن الثورة واالانتقال الديموقراطي والحرية والكرامة لكافة المواطنين”
Reaction irreversible
مقال رائع جدا وطرح شمولي لامس كل الجوانب السياسة والامنية الحقوقية وابرز اسس التناقضات و اسباب الاخلالات
اذا صارع الامني السياسي وغلبه فلا تحدثني عن وطن وللاسف هذا ما حصل فعلا
ألف شكر…. مرحبا بك دائما وأبدا
شكرا سي نصر الدين على هذا المقال . ما يحدث يبدو انه اخطر من عودة القديم . في الماضي كان الامني على يستأسد على من هو خارج منظومة الأمن و ” يلبد ” اذا كان داخل المنظومة . اما اليوم فيريد أن يستأسد على من هو في الخارج حتى و ان كان هذا الخارج جهازا من اجهزة الدولة و يستأسد على من هو في الداخل و ان كان العرف الأول