في غمرة الأفراح و«نشوة» العرس، وكذلك في خضم النقاشات ومعترك الصراع، ضاع اهتمام الغريب قبل الصديق والبعيد قبل المتحزّب، بالتفاصيل التي تسعى قيادة النهضة لإرسائها، بعيدًا عن «معركة الوهم» بخصوص الفصل بين «الشأن الدعوي» و«الشأن السياسي»…
الأخطر والذي يمكن الجزم أنّه «الانقلاب» الفعلي، إن لم يكن «الزلزال» فعلا، ما اقترحته بعض القيادات، من أنّ لمن «وفد حديثًا» على النهضة، نفس الحقوق والواجبات، التي امتلكها «ابن التنظيم» منذ سنوات التأسيس وعلى مدى فترة السجون والمنافي، وما شهدت من آلام وعذابات.
وجب التذكير بأمرين على قدر كبير من الخطورة:
أوّلا: أنّ النهضة، بُعيد 14 جانفي، اشترطت على كلّ «ملتحق» بها أن يحوز تزكيّة «أخلاقيّة» من 3 ينتمون إليها، ومن ثمّة وضعت «غربالا»، تقف به ومن خلاله سدّا منيعًا أمام حالات «الاختراق»، سواء منه الاختراق «العددي» أو (ما هو أخطر) الاختراق «الأمني»،
ثانيا: آلية صياغة القرار ضمن النهضة، تأتي حالة توازن دقيقة ومحكمة الصنع بين «الديمقراطيّة» (أيّ الشورى بالمفهوم المعتمد رسميا ضمن الحركة)، أي «لعبة/لغة» العدد، في مقابل «قدرة أهل العقد الحلّ» (أيّ القيادة على رأسها راشد الغنوشي) في اتخاذ القرار، لذلك سعت القيادة دائما وأبدًا، إلى تلبيس «القرارات الفوقيّة» بعدًا «ديمقراطيّة»… لعبة أتقنتها النهضة على مدى عقود…
صورة النهضة على أنّها «الحزب الأقوى» في البلاد، على الأقلّ قياسًا بالأحزاب الأخرى، سيجعلها، من خلال لعبة «من دخل بيت النهضة فهو آمن»، تغرق في كمّ مترقّب من الانخراطات، سواء من قبل من يريد، أن يلغي وينفي أو يكفّر على ماضيه «التجمّعي» أو هي (وهنا مكر السياسة) «جهات» ستدخل للحركة «جماعة» ليكون لها من «النفوذ» ما للقدماء وما للمؤسّسين وما لمن دفعوا من دمائهم وسنوات عذابها وسنين السجون والمنافي…
النهضويون (القدامى) سيفيقون من «سكرة المؤتمر» تحت وطأة «الضيوف الجدد» أو هم «أهل البيت» أسوة بهم، حين يريد راشد الغنوشي ومن معه من القيادة، إغراق النهضة في بحر من «الدخلاء» الذين قد (ونصرّ على قد) يكونون «أهل البيت» (الجدد)، أو على الأقل يشكّلون «قوة» أو جناحًا، على الأقل….
هو قانون الطبيعة ومنطق انتقال الهواء من منطقة إلى أخرى بحكم الاختلاف في الضغط:
أوّلا: نهضة مفتوحة على مصراعيها، أمام من هبّ ودبّ
ثانيا: يتامى التجمّع (خاصّة) وقد وجدوا «زوج أمّ» (الغنوشي) يجعلهم أسوة بمن جاؤوا من صلبه…
في تجاوز للنوايا المنقوصة والتمنيات الناقصة، وفي تجاوز كذلك لما هي تأويلات البعض وقراءة الأخرين، يمكن الجزم (قراءة لتجارب الأحزاب عبر العالم)، خصوصًا في ضوء الواقع التونسي، أنّ النهضة، سيصيبها «انتفاخ» مفاجئ، ومن ثمّة لن تحكمها جدليّة «الولاء والبراء» (في نسختها الاخوانيّة) مستقبلا، بل ستكون على صورة التجمّع، بل أشنع، لأنّ التجمعّ كان «استراتيجيا» تحت أقدام بن علي، و«تكتيكيا» مفتوحا على الصراعات جميعها…
النهضة، بعد سنوات، سيكون فيها «صحابة الغنوشي» أي نهضة «ما قبل 14 جانفي» أقليّة، مقابل «التابعين» ممّن وفدوا بعد المؤتمر العاشر.
إنّه علم صحيح، لعبة تحالفات جهويّة، مفتوحة على المال الفاسد (الذي بدأ يسيل داخل النهضة)، معطوفًا على الإعلام المأجور، ليجد جيل «المنافي والسجون» نفسه أمام سؤال: «من أنتم» من قبل من لبّوا «نداء رادس» ودخلوا بيت الغنوشي ليكون الأمان…
الغنوشي أسوة بالسبسي (بفعل السنّ وسنوات القهر وسنين التهميش) محكوم بحال من «الهوس الشخصي» obsession وهي في علم النفس السريري، تجعل المرء يختصر العالم وجميع أدوات الفعل في هذه «الشهوة»…
من استمع إلى خطاب الغنوشي والباجي، يجد هذا وذاك يخاطب «شعبًا» ولا يتجه إلى «قواعد» حزب، حين يريد الثاني أن ينتقم من تجاهل «التجمع» (زمن بن علي) ويبغي الأوّل أن يخرج من عباءة «الإرهاب» وجبّة «التطرّف» ليكون مقبولا ومرضيا عنه…
السياسة ـ لمن لا يعلم ولا يفقه ـ أو بالأحرى قراءة السياسة، جمع للفراسة (قوّة التحليل) بقراءة التاريخ، الذي هو (بالمفهوم الخلدوني) عبر وخلاصات تنير الحاضر: النهضة أشبه بذلك المركب الذي سيغرق في السنوات القادمة بفعل كثرة الركّاب، بل (وهذا الأخطر) بفعل صراعاتهم من أجل المناصب والمكاسب…
ما جدّ بين «شقوق» النداء «بروفة» لما ينتظر النهضة في السنوات القادمة، حين صارت هي «الحزب الحاكم» منقوصة من سطوة زعيم بقوّة بورقيبة وجنرال دموي بعنف بن علي. الغنوشي يقود الباخرة فعلا، لكن لا يملك خزان الوقود ولا قدرة له على السيطرة على المحرّك. رجال الأعمال (الفاسدون في أغلبهم) الذين سيبيضون أموالهم بالتبرع للنهضة وذواتهم بالقرب من الغنوشي، هم الأقدر (أسوة بالسرطان) على الفتك بما لا يستطيع الغنوشي فهمه حاليا، أو شركائهم من «كهنة» معبد النهضة، الذين «قبضوا» نظير «السماح الأكبر»…
في فك رموز اول يوم من مؤتمر النهضة العاشر
أذكر أن سنة 2012 أو ربما 2013 كنت اتابع زيارة جون كيري إلى فرنسا، وفي خطاب له امام الرئيس الفرنسي استهل كيري خطابه بتحية فرنسيه وخاصة بلهجة ” باريسيه “….
كانت مجموعة من الكلمات أظن أنها التحية المعروفه، و كلمات حول جمالية البلاد وحسن التنظيم.
ثم عاد سريعاً للتكلم بالإنجليزية قائلاً ” اسمحوا لي أن أتكلم لغتي الأم والا لن تقبل الولايات المتحدة الأمريكية عودتي اليها ” وضحك وضحك الجميع.
دام هذا المشهد ما يقارب الدقيقتين أو أقل ربما، وازعم أن مقالا كاملا لن يكفي لتحليل هذه الكلمات، ولكن أهم ما جاء فيها هو رسالة للعالم بأن الولايات المتحدة الأمريكية منفتحة على شعوب العالم وتمتلك وسائل ذلك الانفتاح ولكنها صاحبة سيادة، بل ولم تفقد تموقعها كزعيمة للعالم…….
وعلى شاكلة خطاب جون كيري، كان اليوم الأول لمؤتمر حركة النهضة مليئاً بالترميز والرسائل.
أهمها قوة الحركة ( الشعبيه والمالية)
2- انفتاح الحركة ومواصلتها خط التوافق ( رمزية ضيف الشرف)
3- التنظيم الحزبي الداخلي، وخصوصية حركة النهضة على جميع الأحزاب المنافسه ( فالقرارات المتخذه تظهر صادمة للجميع وخاصة قواعد الحركة)
4- القوة الخارجية للحركة وأهميتها في تكوين المشهد التونسي ( فسيفساء الضيوف مثلاً)
5- إعادة تمثيل مشاهد حزب التجمع الدستوري الديمقراطي، وهو ما رأيته مهيبا مخيفا للانصار وللخصوم ( رمزية قبة رادس)
وفي قول ” الأستاذ ” راشد الغنوشي ” أن من ظن أننا لن نملا القبه فهو واهم ” جملة من الرموز والدلالات لكل أن يفهمها حسب هواه.
أما عن عدم حضور الدكتور المنصف المرزوقي للمؤتمر فهو كذلك رسالة كفيلة لوحدها بأن نضع تصورا للخارطة السياسية التونسية في قادم الأيام…..
انا لن اطلع الغيب، ولم اتخذ عند الله عهدا، ولكنني أزعم أن قادم الأيام ستكون فاجعة ” سياسياً ” لبعض الأحزاب وخاصة خاصة لأنصارهم.