تعيد الرسالة التي أصدرها القيادي في حركة النهضة عبد اللطيف المكّي، طرح السؤال الذي قسم المهاجرين والأنصار في «السقيفة» إثر وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم : أيّهما أولى بالاتباع : «حقّ» (قد) يضع وحدة المسلمين في خطر، أم «وحدة» تجاوز بعض الحقوق؟ مع التأكيد أنّ كلّ من جاء السقيفة بغاية الخصام، وخصوصًا من استلّوا سيوفهم، يملك الواحد منهم، أو في الأفضل كلّ جماعة معنى خاص به (بها) للوحدة وللحقّ خاصّة.
رسالة عبد اللطيف المكّي هامّة وخطيرة وستكون أشبه بالقنابل العنقوديّة داخل كيان النهضة: من يطالع الرسالة يدرك في سهولة ويسر أنّ الرجل، وإن تحدّث عن «فعل مضارع» [بمعنى جدّ لتوّه] إلاّ أنّ المعنى يشير إلى قدم هذا «الألم» الذي جعل الكأس يطفح والقلوب تفيض.
شيء شديد الخطورة، تؤسّس له هذه الرسالة: للمرّة الأولى منذ تأسيس المشروع الاسلامي (الجماعة ـ الاتجاه ـ النهضة) لا يمكن لعقل النهضة وضميرها وخاصّة حاسّة الخوف المتطوّرة جدّا، بل المتضخمة حدّ المرض، أن تدّعي أنّها «ضحيّة» وأنّ «الأخر» (ضمن أوجهه العديدة والمتعدّدة) هو من يقف وراء هذا «العدوان»، علمًا وأنّ جزءا غير هيّن من تماسك النهضة وكذلك «كظم الغيظ» بمعنى «ابتلاع السكين بدمه» [ضمن المعنى التونسي الدارج] مأتاه الخوف من أن تفتح «الخلافات الداخليّة» ثغرة ينفذ منها هذا «الغريب/العدوّ»، ليفتك بالنهضة أو بالأحرى بنهضويين، لا تزال كوابيس السجون والمتابعات والعذابات تورق [إلى يوم الناس هذا] نوم الكثير منهم. فما الذي جعل كأس عبد اللطيف المكّي يطفح والرجل ينفجر ويقول ما قال؟؟؟
من الأكيد أنّ الرجل [أيّ عبد اللطيف المكّي] ليس غرّا وغِبّا، بل عانى السجن ودفع من عذاباته ومن شبابه، وبالتالي تأتي صرخته في العلن أشبه ما تكون «فضح للمستور» بأنّ «القارب» (النهضوي) يكاد أن يغرق، أو بالأحرى المشروع ذاته، بمعنى «التمكين» (في الأرض) الذي أقسم عليه الجيل المؤسّس قسم «الولاء والبراء» من خلال «بيعة» لا تنفكّ بفعل الزمن.
خوف عبد اللطيف المكّي جاء (ظاهرًا) بسبب استبعاده من رئاسة قائمة هنا ودفعه إلى قائمة هناك، لكنّ (في العمق) الرجل يتحدّث ويصرخ ويصيح أنّ «قائمات التشريعيات» تسلّطت عليها أسماء لم تخترها القواعد ولم يزكها عمق الحركة. أيّ «غرباء» دفع بهم راشد الغنوشي شخصيّا إلى هذه الصفوف الأماميّة، ليكونوا سادة طارئين بدل السادة المؤسّسين، ومن يحكم بإسم «الوضع القائم» عوض عمّن يحكم وفق شرعيّة التاريخ والسجون والعذابات والمنافي والتشريد.
على المقلب الأخر للمسألة: راشد الغنوشي يملك خطاب تبرير أو هو تفسير وتقديم «الأدلّة» التي تهدف إلى إقناع «القاعدة» بصواب الرأي، بمعنى أهميّة الدفع بأسماء «جديدة» إلى الصفوف الأولى، وفائدة «ضخّ دماء» أخرى «غير نهضويّة» الماضي والنضال، بل والعمق الشعبي، ليصيروا «سادة» وكذلك «قادة» أكثر شرعيّة بقرار من «الشيخ/المرشد» ينسخ الماضي ويجعله عصفًا مأكولا.
في حال تمّ سجال تلفزيوني بين الرجلين: راشد الغنوشي وعبد اللطيف المكّي، سيتحدّث هذا وذاك عن «الذهاب بالحركة إلى مرتبة أفضل»، مع فارق أنّ راشد الغنوشي يعتبر الحركة من أملاكه، مثل أيّ سيارة أو حافلة، من حقّه أن يستدعي للركوب من يشاء ويُنزل من أراد، في مقابل عبد اللطيف المكّي، الذي (كما جاء في طيات الرسالة) يرى في نفسه وفي أمثاله أصحاب «حقّ/ملكيّة» وليس «كرّاية» [أي من اكترى مكانا داخل النهضة، يغادره عند نهاية العقد، أو رغبة صاحب المحلّ].
من الأكيد أن هناك من يحاول تقريب وجهات النظر ورأب التصدعات التي خلفها تسونمي هذه الرسالة، وكذلك «اللمحة» التي أثارها عبد الحميد الجلاصي، لكن [على المستوى المتوسط والبعيد] لم تعد هناك من امكانية «تعديل» بين الطرفين، لأنّ صراع خطير على وجهين: وجه ذاتي مع العلم أنّ خلاف أو اختلاف عبد اللطيف المكّي وشخص الغنوشي يعود إلى سنوات، وثانيا (وهذا الأهمّ) نحن نقف أمام تناقض في المفاهيم: راشد الغنوشي الذي يريد انقاذ «الشقف» وإن كان خاويا من العمق التاريخي لهذه الحركة، أي مئات الالاف من الأشخاص وعوائلهم ممن دفع ضريبة الدم والسجن والتشرّد والمراقبة الإداريّة، مقابل من يرون أنّ مصداقيّة الحركة في عمقها التاريخي.
مفصل أخر هامّ وخطير في هذه «السقيفة» [في نسختها النهضويّة] يتمثّل في علاقة الصراع بما هي «الديمقراطيّة» نصّا وروحا وممارسة وأسلوب تعاطي بغية فرز النخبة الماسكة لمقاليد الأمور في الحركة. علمًا وأنّ انتخابات داخليّة مكّنت من «استنتاج» نخبة كانت (إلى حين نشر رسالة المكّي) مؤهلة لتشكيل القائمات التي ستمثل النهضة في الانتخابات التشريعيّة القادمة، ممّا أسّس (وفق هذه الفرز) لموازين قوى، اعتبرتها دوائر الغنوشي استشارة لا يمكن أن تعني «المرشد/الفقيه» الأولى وصاحب اليد الأعلى وليس العليا فقط، في «تشخيص مصلحة الحركة»… من الأكيد أنّ النهضة ستنقسم شطرين، عاطفيا على الأقل، بين من يرون بل هم في رعب من أيّ «خروج» عن البيعة لراشد الغنوشي وإن أدّى ذلك وقام على «تجاوزات»… مقابل فئة ترى في ذاتها شريكا وفي راشد أقصر قامة من الديمقراطيّة داخل الحركة… قنابل موقوتة ستنفجر بالتتالي.
سؤال: كيف ستمّ الحسم في مسألتين هامتين محددتين لمسار الحركة ومصيرها:
أوّلا: ما دلالة لفظ «النهضة»، هل يعني الحركة بعمقيها التاريخي والنضالي، أو ما تقرّره دائرة القرار المحيطة بالغنوشي
ثانيا:أيّ معنى للديمقراطيّة حين تصبح استشاريّة أمام قرار الزعيم الماسك (بالتالي) للقرار دون القاعدة ودوائر الحركة الوسطى
سؤال خارج النص: هل أموال الحركة في الخارج ملك الرئيس راشد الغنوشي الشخصي أم ملك للحركة؟